(وقت القراءة: 5 - 9 دقائق)

أثر المسرح وأهميته

تتكرر بيننا المقولة الشهيرة "أعطني خبزا ومسرحا أعطيك شعبا مثقفا" والتي تدل دلالة واضحة إلى أثر المسرح التنموي و أهميته منذ القدم للمجتمعات (الشعوب) كأحد منابر الأدب والثقافة ومختلف الفنون، ويؤكد هذا الكلام الدكتور محمد زكي العشماوي حيث يقول: "ما أظننا نغلو في القول إننا اليوم أشد منا في أي يوم آخر حاجة إلى العناية بالمسرح ... ولعلنا كذلك لا نغالي إذا قلنا إن الأدب التمثيلي هو أكثر آدابنا حاجة إلى الرعاية وبذل الجهد والتماس النضج والأصالة، والتطلع إلى النهوض.نهضة تكفل لشعبنا العربي ماهو أهل له, وعلى الأخص في هذا الوقت الذي نخطط فيه لمستقبلنا وندعم فيه البناء لغد آمن مستقر" (العشماوي، د.ت)(1)

ويحتل المسرح في دول العالم المتقدم مرتبة مهمة في الحياة اليومية محققا ما تخططه من الأهداف التربوية أو الأخلاقية أو الأمنية وحتى السياسية وهو أحد أهم الوسائل الإعلامية التي ترقى بالمتلقي (الجمهور) وتساعد على ترسيخ الهوية الوطنية وهو الساعي دوما لتوفير حلول لمشكلات المجتمع وخصوصا ما يندرج تحت التنشئة الاجتماعية صانعا مرآة واضحة لملامح المجتمع بمحاسنه وسيئاته ويحفزه بخطاب مؤثر جدا للتغيير.

 

ويرى المتخصصون أن دخول المسرح في الحياة الاجتماعية سواء في إطار ديني اجتماعي أو اجتماعي سياسي , جعله يدخل في التدريب الواعي للفرد عبر محاكاته لأحاسيس هذا الفرد فالمسرح يحشد الانفعالات ويدفعها في الآفاق الطبيعية والاجتماعية, فيجعل الإنسان واعيا لحب الخير العام وكراهية الضرر العام لذلك كان المسرح يدرب النفس الإنسانية على إعادة تقدير مواقفها واعتماد العقل والمنطق أساسا للرأي والموقف, إنه يثير الإنسان ليتخذ الموقف السليم ويزوده بالحافز السليم لبناء موقفه(عبدالغني، 2006)(2).

"إذا كان من المسلَّم به أن في قدرة المسرح أن يلقن الشعب وطلاب العلم ما تلقنه المعاهد والجامعات، وإذا كان من المقطوع به أن أثر المسرح في تنمية الوعي وتطوير الملكات لا يقل بأي حال عن أثر المدرسة والجامعة فهل يجوز لنا أن نقتصد في بناء المسارح وإعداد العدة لتكوينها مع علمنا بأنها إحدى الدعامات الأساسية في بناء نهضتنا؟ فمن التراث الإنساني ما هو صالح لنهضتنا الحديثة وتكويننا الجديد ومنه ما هو غير صالح، من أجل ذلك كان علينا عند نشر الوعي والثقافة أن نكون على بصيرة بما نقوم به، لأنه (المسرح) الفن الذي لا يمكن أن يسلم قيادته إلا فنان قادر على التأثر بالجماعة الإنسانية التي يعيش معها والتأثير فيها... فالمسرحية تتجاوز تجربة الفرد في القصيدة والشعر إلى تجربة الجماعة كذوات متواصلة متأثرة ببعضها، وتتعدى القصة من نثر خيالي للقراءة إلى حياة تدب على الخشبة لكافة الشخوص والأحداث فضلا عن اشتماله للأزياء والإكسسوارات والمؤثرات الضوئية والصوتية"(العشماوي، د.ت)(3)

إن المسرحية لا تختار من الفعل إلا جانبه المثير والأكثر قدرة على الإيحاء وأوثق صلة بالحدث الرئيس أو ما يسمى خط الفعل المتصل(ستانسلافسكي ترجمة:العشماوي ومرسي)(4)، وأيا كان الجانب الذي يختاره المسرحي فيستحيل أن يذهب في عرضه وتمثيله مذهب القصصي من تحليل وتفصيل(تشارلتون ترجمة: زكي نجيب محمود)(5).

إن الأدب جزء من الحياة ويعد ترجمانا صادقا لمشاعر الأمة يصور خلجاتها ويعبر عن أحاسيسها ويمثل حياتها بما يعتريها من آمال وآلام وأفراح وأحزان وما تتقلب فيه الأمة من أعطاف النعيم وما تتردى فيه من بؤر البؤس والشقاء، لذلك يجب أن ننبذ الرأي القائل بأن الفن للفن وهي نظرية أدبية معروفة أخذناها من الغرب وقامت حولها مناقشات ومجادلات كثيرة، نحن نرفضها لأن ديننا يسعى إلى إسعاد الإنسان في حياته وآخرته(الدخيل،1420)(6).

ويتفق المهتمون بالتربية الحديثة بأهمية المسرح المدرسي ودوره الفعال في مساعدة الطالب لكي يصبح إنسانا سويا قادرا على خدمة نفسه ووطنه(عسيري،1430)(7)، واهتمام المملكة العربية السعودية وبرغم مجيئه متأخرا إلا أنه لم يظهر أثرا يذكر بجانب التجارب العربية والعالمية، يقول د.محمد مندور: "وإذا كنا قد أنشانا في القاهرة معهدا لتخريج الممثلين المثقفين ونقاد المسرح المستنيرين فإن مجال العمل لهؤلاء الخريجين لن يتوفر ما لم تول الدولة عنايتها لهذا الفن وتعتبر دوره معاهد تثقيف وتهذيب وتربية وتوجيه"(مندور،2004)(8) إضافة على ما سبق فإن المسرح يهدف إلى عدة أهداف تربوية حيث "يساعد الطلاب ليس فقط في معايشة الظروف والأحداث في ظل التنظيمات الكبرى، بل ينمي المشاعر الأخلاقية تجاه الإنسانية، وغرس العادات والتقاليد الحاضرة وتطور الاحكام الاخلاقية المتطلبة لحاجات المستقبل، حيث يعد أداة تربوية للإنجاز من خلال إحداث التغير في المجتمع"( Nelli , 1990)(9).

ويؤكد الدكتور كمال الدين حسين أن المسرح "يعمل على إكساب التلاميذ الكثير من أساليب السلوك والاتجاهات الإيجابية، نحو الذات والمجتمع والأمة، تبعا للتوجهات الثقافية العامة. ومن خلال الاختيار الجيد للنص المناسب يمكن تحقيق هذا الهدف وغيره من التنمية الاجتماعية، والانتماء للوطن والقدوة الحسنة والثقة بالنفس (حسين,2004)(10)

إن المسرح في العصر الحديث أُكسِىَ طابعا آخر فكان (مثلا) أداة لتحريك الشعوب لتثور ضد الاستعمار أو الظلم مثلما صنع بريختBresht  في مسرحه الذي عرف بالمسرح الملحمي، وكما استعمل الفن المسرحي كوسيلة لإدماج الفرد في المجموعة بعد استقراء أغوارها ولهذا سلط عليه علماء النفس الأضواء ولم يستطع علماء الاجتماع تجنبه (تردايت، 2003)(11). وفي مجال تعديل السلوك كان للمسرح أثر كبير حيث وجد تطور مثير داخل مجال التعليم والذي يعتمد على وجود اسهامات العلاجية النفسية خاصة في مجال العلاج بالدراما (2003 jo rojer)(12).وفي بولندا كان المسرحي الكبير جروتوفسكي –Grotowski يقوم بتجاربه في ورشته المسرحية والتي كان يدرب الممثلين بشكل جيد يعتمد على إعادة التفكير في النفس، وكيفية تعاملها مع الأدوار الإنسانية في الواقع، حيث كان منهجه شكل من أشكال التمثيل العلاجي للمشاهد والممثل معا (حسين،2004)(13). وقد أثبتت إحدى الدراسات أن التعرض للمشاهدة ووجود نموذج معين يحتذي به الطفل من أبطال المسرحيات التي قدمت على مسرح العرائس أدى إلى خفض السلوك العدواني والاعتمادي لديهم (الشربيني،1987)(14).ويذكر أن السايكودراما تعمل على تخفيف العدوانية لدى الأطفال اللقطاء، وأنها (السايكودراما) تساعدهم على التعبير اللفظي الحر والتنفيس الانفعالي والتلقائي والاستبصار الذاتي في الموقف الجماعي (أبو الفتوح,1999)(15).ولا يقتصر الأثر على العاملين فيه فقط بل على المجتمع (المتفرج) بكافة أطيافه وفئاته وباختلاف أدوار أفراده ،يذكر الدكتور مندور "أن مسرحية (الظلوم) أغضبت الخديوي إسماعيل عام 1978م حيث قام بطرد جوقة سليم النقاش القادمة من سوريا (مندور،2004)(16).

 

وجورج برنارد شو-  Gorge Bernard shoقدم تجاربه في مسرح الفكر والتي تطرقت لعلاج أمراض المجتمع ومن مسرحياته "مهنة السيدة وارن التي تتطرق لمشكلة انتشار الدعارة كمهنة ، ومسرحية بيوت الأرامل التي ينتقد فيها المدنية الإنجليزية حيث أدت إلى استغلال حاجة الفقراء للمسكن وقال في مسرحيته أن المثاليين وأصحاب لمبادئ لابد وان ينجرفوا وراء الطمع في أموال الفقراء.

ونعمان عاشور الذي كتب مسرحية (الناس اللي فوق) ومسرحية (الناس اللي تحت) حيث انتقد فيها الطبقية التي تفشت في المجتمع المصري بعد ثورة 23يوليو ساعيا لإذابة الفروق الصارخة بين أفراد المجتمع المصري"(العشماوي،د.ت)(17)

ومسرحية (قصة حديقة الحيوان) لإدوارد ألبي-  Edward albeeالتي تناولت غربة الإنسان في مجتمع المدينة و صعوبة التفاهم بين الناس في عالمنا اليوم(اسيلين,2009)(18)

لذلك يتفق المثقفين والمفكرين والفنانين على أهمية المسرح وأثره بشكل عام ولكن الإشكال هو نظرة العوام من متشددين (بين إفراط وتفريط) ومدعين وجهلة فنظرتهم القاصرة وخصوصا عندما يكونوا في موطن صناعة القرار الثقافي وصياغة النشاط الفني في أي جهة كانوا فهم كمتلقين للمسرح وغيره ينقصهم الشيء الكثير من الذوق والحضارة فضلا عن الثقافة التي كانت كفيلة ليبصروا من خلالها دور أبي الفنون في الحراك التربوي والأوساط الفكرية الذي يرفع من ذائقة المجتمع ويُعلي من مستويات تفكيرهم وترقى بمداركهم نحو اتساع يشمل فنون الحياة التي يصورها المسرح ويحاكيها ويعالجها بجميلها المفرح المضحك وسيئها المحزن المبكي، ويطال المشتغلين في المسرح بعض من هذا فمنهم من لا يدرك أنالمسرح وسيلة لدعوة مثلى نحو الفضائل سعيا إلى حياة أكثر استقرارا وأوفر أمنا بجميع أبعادها فنجد المؤلف والمخرج والممثل (أعمدة العمل المسرحي) وهم في مرتبة المرسل المؤثر غير آبه برسالته وما قد يؤديه من معان وذلك لاتخاذه اللعبة المسرحية غاية.

إن خلف المسرح هدف أعلى يقصده كل فاعل في التجربة المسرحية وعندما يكون العمل المسرحي غاية في ذاته تناقضت أفكاره وتداخلت قضاياه وأصبح فضلة كالهلام المقزز لا يعرف قصدا من وراءه وهذا قد يكون أفضل من عمل يؤدى بلا هدف منشود فينتج عنه كارثة فكرية تدعو المتلقي بشكل غير مقصود إلى انحطاط أخلاقي أو تجعله مشاركا في ترفيه مسخ لا هدف له سوى ضياع ساعات من الزمن. فالمسرح مهم لأنه في أول الأمر خطاب مؤثر وللتأثير جوانب سلبية وإيجابية فلا يصيب مصادفة بل بتخطيط سليم واجتهاد مستمر وإلا كان تلوثا فكريا وثقافيا لا يرقى بالمجتمع بل يزيده انحطاطا، فلا مسرح بلا تأثير.

 

إلى مسرح الجامعة:

قال لي الدكتور بكر الشدِّي –رحمه الله-  ذات مساء  بأن مسرح الجامعة انطلاقة المبدعين وأتوجه لأعضاء الأندية المسرحية بالجامعات بان استثمروا وجودكم المؤقت في تطوير مهاراتكم وتوسيع مدارككم فأنتم نجوم الغد. دائما أقول: إن من دواعي فخري أن أكون من مسرح الجامعة.

_________________________________

الهوامش
1)    العشماوي، محمد زكي،، بدون تاريخ (المسرح) ، دار النهضة العربية – بيروت.
2)    عبد الغني، عباس علي،2006، دور وسائل الإعلام في تنشئة الفرد- المسرح أنموذجا، مجلة علوم إنسانية  www.ulum.nl السنة الرابعة: العدد30: أيلول (سبتمبر)
3)    العشماوي، سبق ذكره.
4)    ستانسلافسكي، قسطنطين،إعداد الممثل ،ترجمة محمد زكي العشماوي ونجيب مرسي ص128
5)    تشارلتون ، فنون الادب ، ترجمة د.زكي نجيب محمود - ص123
6)    الدخيل، حمد ناصر،1420،الأدب العربي الحديث  ،من إصدارات النادي الأدبي بحائل - ط1 
7)    عسيري، حسن موسى،1430هـ، مقالة بعنوان التربية المسرحية داخل مؤسساتنا التربوية، بملحق الأربعاء لصحيفة المدينة  يوم 23/ ذوالقعدة/1430هـ ص30
8)    مندور، محمد، 2004، المسرح، نهضة مصر للنشر .
9) Nelli Mc Cas Lin,1990, Children Drama,p.107-108. Nellie Mc Cas Lin, creative drama in the school,5th ed players press, California.
10)   حسين، كمال الدين،2005, المسرح التعليمي المصطلح والتطبيق , الدار المصرية اللبنانية , ط1.
11)   بن تردايت، زهير،2003، ألعاب درامية ، نشر ألفا للاتصال،تونس، ط1. 
12)   jo rojer , 2003, Changes For Drama Therapy In Education, The Prompt, The magazine Of B.A.Dth .
13)   حسين، سبق ذكره. 
14)   الشربيني، هانم, 1987, استخدام مسرح العرائس لتعديل بعض أشكال السلوك المشكل لدى أطفال الروضة,المنصورة ، مصر.
15)   أبو الفتوح,خالد, استخدام السايكودراما في تحقيق العدوانية لدى الأطفال اللقطاء مجهولي النسب، لسن ماقبل المدرسة, جامعة عين شمس ,دراسات الطفولة .
16)   مندور، سبق ذكره .
17)    العشماوي.
18)   اسيلين، مارتن, 2009  , دراما اللامعقول, ترجمة صدقي عبدالله خطاب, ومراجعة محمد إسماعيل الموافي ط2, نشر المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, الكويت.

||نبذة عن المؤلف||

ياسر بن يحيى مدخلي

ياسر بن يحيى مدخلي Google Plus

كاتب وباحث مسرحي واجتماعي (مؤسس مسرح كيف)حاصل على ماجستير في الدفاع الاجتماعي وحقوق الإنسان ودبلوم عال في البحث الاجتماعي وبكالوريوس في آداب اللغة العربية وهو ناشط في مجال حقوق الإنسان من خلال مبادرات يسعى من خلالها إلى نشر الثقافة الحقوقية و التعريف بمهنة الخدمة الاجتماعية وله أبحاث ودراسات قدمها في مختلف المناسبات ونشرها على موقعه https://yassermadkhli.com