موضوع إسلام الزوجة، وبقاء زوجها على دينه، موضوع شديد الإلحاح، وكثير الوقوع في البلاد الأجنبية، وثارَ ـ الآن ـ موضوعٌ آخرُ، فقد تحدث الشيخ حسن الترابيُّ عن زواج المسلمة من غير المسلم ابتداء، فأباحه.
وقد أثار رأيه هذا ضجةً في جميع الأوساط، وعلى مختلف المستويات، ثم كان منهم المؤيد المتحمس لهذا الرأي؛ لمجرد أنَّه وجد فيه تحرراً من أقاويلَ يرددها العلماء كما قالها السابقون، دون تمحيص، ومنهم المنكر الغاضب الذي رأى فيه خروجاً على المذاهب الأربعة، وانتهاكاً لحرمة الإجماع، فراحَ يَكيلُ لحسن الترابي التهم، ويصب عليه جام غضبه.
ويبدو ـ والله أعلم ـ أن الفريقين جانبا الأسلوب العلمي الصحيح في النظر إلى الآراء، لكن لعل من عذر هؤلاء الغاضبين أنَّ الترابي لم يقدم هذا الرأي وفقَ المنهج العلمي المعروف (الرأي، دليله، ومناقشة الآخرين). ومع أني أعتقد أنَّ لفضيلة الشيخ الترابي، وأمثاله من العلماء أن يتبنوا من الآراء ما يرونه صواباً وموافقاً للشريعة، وفق الضوابط العلمية الصحيحة، سواء أخالف ادعاءات الإجماع، أم وافقها، فإن كنت أرجو من فضيلته ـ حين يتبنَّى رأياً كهذا ـ أن يقدم للقراء مسوغات هذا الرأي، ومناقشته لآراء الآخرين. ثم للعلماء ـ فيما بعد ـ أن يناقشوا هذا الرأي، فيقبله من يقبله، ويرفضه من يرفضه.
لكن الذي حصل أنَّ الشيخ الترابي نشر رأيه هذا في لقاء صحفيٍّ، فكان أشبه بتفجير هائلٍ في وادٍ سحيقٍ هادئٍ، وكان له صوت عالٍ صدَمَ بعضَ الآذان، وأصداءٌ تتردَّد بلغت الآفاق.
واسمحوا لي أن أسارع فأطمئن الغاضبين بأنَّ أكثرَ ما يُعّزِّز الآراءَ الصحيحةَ الحقَّةَ نقدُها، والهجومُ عليها، ذلك أنَّ إثارةَ مثل هذا الرأي من أمثال فضيلة الشيخ الترابي بمثابة هِزَّةٍ تدفع العلماء إلى مراجعة معلوماتهم، بالبحث، والتمحيص، والتدقيق، ثُمَّ إما أن يجدوها صواباً فيكونوا قد بعثوها من جديد، وعزَّزوها، وازدادوا يقينا بها، وإما أن يجدوها خلاف ذلك فيطرحوها، وبهذا تبعث الحياة والحركة في العقول، وينشط البحث العلمي، وتزدهر الحركة الفقهية.
إنَّ الكَيِّسَ الفَطِنَ من الناس إذا قال له أحدٌ: احذر!!! أنت على خطأ، يسارع إلى مراجعة حساباته، ويتأكَّدُ من موقفه، ثم إمَّا أن يجد ذلك الْمُحَذِّرَ مخطئاً، فيزداد ثقةً بنفسه، أو يجده مصيباً فيتدارك أمره، ويصوب خطأه.
أمَّا النوع الآخر من الناس، فإنَّ إعجابه بنفسه، وانغلاقه على معارفه، يصرفانه عن مراجعة نفسه، ويكون همُّه ردَّ العيب إلى المقابل، ومقابلته باتهامات مضاعفة، وينتهي الأمر!
وأعتقد أنَّه لا يخشى النقد، والخلافَ ويضيقُ بهما ذرعاً، ويتأفّفُ منهما، إلاَّ صاحبُ فكرٍ منغلقٍ، ورأيٍ هشٍّ، لم يُبْنَ على أساسٍ متينٍ، ولم يُشيَّد على أصولٍ من القواعد العلمية الصحيحة.
كما أني أسارع فأذَكِّر الغاضبين بأنَّ في تراثنا الفقهيِّ أقوالاً كثيرةً جداً مخالفةً لظاهر القرآن الكريم، أو للجمهور، أو للإجماع الْمُدَّعَى، عرضها علماؤنا السابقون في كتبهم، ونعرضُها في بحوثِنا، ونقف عندها ونناقشها، دون أن نتهجم على أصحابها، أو نتهمهم بالابتداع، فهل إبداءُ الرأي حلالٌ على أولئك السابقين من علمائنا حرامٌ على اللاحقين منهم؟
إنَّ الرأي الصادر من فضيلة الشيخ الترابيِّ دفعني إلى أقلبَ جميع أنواع الكتب في مكتبتي (تفسيرها، حديثها، وفقهها) وأخذت أجمع ما أجده من مادة علمية لها اتصال بهذا الموضوع، لأكتب بحثاً في هذا الموضوع، إما يزيدني يقيناً بما أنا عليه من رأيٍ، وإما أن يتبين لي صحة ما ذهب إليه الشيخ الترابي، وفي الحالتين مكسبٌ.
وأسارع ـ أيضاً ـ فأذكر المسلمين بأنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ أنعم علينا بدينٍ يشجع العلماء على أن يجتهدوا، ويقولوا رأيهم، ويبتعدوا عن التقليد الأعمى، إنَّنا اعتدنا في مسارح هذه الدنيا على أنَّ من يجيب جواباً صحيحاً، فإنه مؤهل لأن يأخذ جائزة، لكنَّ ديننا يعطي جائزةً لكلِّ محاولٍ، وإن أخطأ، فهو يعطي الجائزة للمصيب والمخطئ : ((إذا اجتهد القاضي فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر)). هل هناك دعوة أشدُّ تحفيزاً إلى الاجتهاد، والتحرر من التقليد الأعمى من هذه الدعوة؟
ثم هل يجوز لنا بعد أن أعطى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ جائزة لهذا المخطئ ـ وخطؤه حسبما نرى ـ أن نتهمه بالابتداع ؟ ربنا يبارك عمله، ويتقبله، ويعطيه أجراً على ما بذل من مجهودٍ، ونحن نكيل له التهم؟
ألا ترون أنَّ في هذا افتياتاً على حكم الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وتضييقاً لسعة هذا الدين، وجنايةً على العقول، ودعوةً إلى الجمود، وتخويفاً للعلماء أن يتجرؤوا فيقولوا رأياً مخالفاً لما عهدناه، وإرهاباً فكرياً، وتعقيماً لهذه الأمة أن تلد مبدعين!
إنَّ في تاريخنا علماء كباراً كان بإمكانهم أن يجتهدوا، ويقدموا لنا الجديد، لكنهم آثروا السلامة من الدخول في معترك كهذا، وأبقوا على أنفسهم مختبئين تحت مظلةِ مجتهدٍ من المجتهدين، فوصلنا ترديدُهُم، وحُرِمْنا تجديدَهُم!
وهناك علماء آخرون لم يرضوا لأنفسهم الانضواء تحت خيمة أحدٍ، إلا خيمة ربِّ العالمين، فكانت عاقبتهم: أن سُجِنُوا، وعُذِّبُوا، وحُرِقَت كتبُهم، وطيف بهم في الشوارع على حمارٍ، ظهورهم إلى رأس الحمار، ووجوههم إلى ظهره!
ألا ترون أنَّ فينا الكثير الآن ممن لو تمكن من الشيخ الترابيِّ لسجنه؟
إذا كانت إجابتكم بالإيجاب، فإني أخالفكم الرأي، فإنا فينا الآن الكثيرَ الكثير، ممن لو تمكن من الشيخ الترابي لأراحه!
التعليقات
فقد ورد في موقع الجزيرة وفي معرض التعريف بالشيخ الترابي أنه:
"درس الحقوق في جامعة الخرطوم ثم حصل على الإجازة في جامعة أكسفورد بريطانية عام 1957 وعلى دكتوراه الدولة بجامعة السوربون بباريس في 6 يوليو/تموز 1964. يتقن الترابي أربع لغات فبالإضافة إلى اللغة العربية يتكلم الفرنسية والإنجليزية والألمانية بطلاقة".
لا يمكن لأي مخلوق أن يخرج على الناس برأي خارج اختصاصه، ولا يقبل ذلك منه، فلم نتساهل حين يتعلق الأمر بالدين؟
هل يمكن لابني أحمد أن يصدر فتاوى شرعية باعتبار أن جده الشيخ محمد جميل العقاد كان أحد أكابر علماء حلب، كما هو حال الدكتور حسن الترابي الذي كان جده عالمًا وشيخًا لطريقة صوفية.
وتعليق على تعليق الأستاذ محمد الملاح
أنه وأني لست في معرض الدفاع عن الشيخ الترابي وغيره ولكن أؤكد أن هناك كثير ممن يتصدون للعلم الشرعي والعقائدي ممن ليسوا بأهل اختصاص أو دراسة ومنهم على سبيل المثال الدكتور الفاضل طارق السويدان وهو ليس مختصا بالعلم الشرعي فنجد أنه أول ما أصدر كتاب في العقيدة وله اصدارات في علامات الساعة وأشراطها وبالتالي نسائل هل رأيكم في عدم اعتبار الأخ الترابي ليس من أهل العلم الشرعي هو ذات الموقف من غيره سواء د. السويدان الذي نحترمه أو غيره طالما أنه ليس من اختصاصة العلم الشرعي واختصاصة الأكاديمي والتعليمي بعيد كل البعد عن مساءل العقيدة والسيرة والأحاداث النبوية الشريفة
رأي الخاص أن وجهة نظركم صحيحة 100% متى ما عممت على كل من يتصدر العلم الشرعي إذا كان ليس من أهل الإختصاص لأن راية قد يحتمل الصواب والخطأ وعليه يفترض أن يترك ساحة الفتوى والإختصاص الشرعي إلى أهلها ويفترض بنا نحن المتلقين أو السامعين أن لا نتعصب لأي شخص إلى درجة القدسية ونتبنى رأية وندافع عنه إلى درجة أننا الصواب والغير خطأ طالما أن هذا الشخص ليس من أهل الإختصاص الشرعي
ونأسف على الإطالة ... وقفة للمراجعة
الدكتور الفاضل طارق سويدان ألف كتابا مصورا عن فلسطين، وهو كتاب قيّم وجميل، ولكنه حافل بالأخطاء. فمن أول فقرة في الفصل الأول من من الباب الأول يخطئ خطأ جسيمًا ويقول:
"لا يعرف أحد بالضبط متى كان أول سكن أو استطان في فلسطين، ولا يوجد شيء أو دليل يحدد تاريخا ما، ولكن أولى الإشارات أو الآثار تدل على أن أول من سكن فلسطين في القرن الرابع عشر قبل الميلاد هم مجموعة قبائل تدعى" النطوفيون" ولهم آثار تدل عليهم ولكن أحدا لا يعرف من هم..."
في حين ينقل الدكتور أحمد طربين في كتابه "قضية فلسطين - محاضرات في التاريخ السياسي"، الجزء الأول ص 14 عن المؤرخ بريستيد Breasted : " إن الكنعانيين من القابائل العربيةالتي استوطنت فلسطين منذ عام 2500 ق.م."
وكذلك يقول المؤرخ فيليب حتي في كتابه: "تاؤيخ سوريا ولبنان" ترجمة جورج حداد وعبد الحكيم رافق، بيروت 1958، الجزء الأول، الفصل السادس: : كانت أولى هذه الهجرات سنة 3500 ق.م. التي اتجهت من شبه الجزيرة العربية نحو الشمال الشرقي، وعلى هذا فإن العرب يوجدون في فلسطين منذ خمسة آلاف سنة على الأقل.
لطفًا راجع "تاريخ فلسطين القديم" لظفر الإسلام خان، دار النفائس، بيروت، ط1، 1973، ص 24 و26.
وهذه الكتب التي استشهد بها هي كتب قديمة، والمكتشف حديثًا في مدينتي دمشق وماري - وهي مدينة على الحدود السورية العراقية بجوار عين العرب والقائم - يرجع إلى عشرة آلاف سنة قبل الميلاد. ولا يعقل ألا يكون لفلسطين تاريخ مماثل وهي الأرض المباركة المعروفة باعتدال جوها.
ألا يجدر أن نسأل مؤرخا أو أثريًا؟
اشكر الد. الكبيسي على المقال الرائع ..
- بالنسبة لموضوع الفتوى ( موضوع زواج المرأة المسلمة من رجل غير مسلم) كان مطروح من قبل 4 سنين بالمركز الاسلامي بالمكسيك وجاءت فتوى فيه ان يجوز الزواج لكن بشروط كثيرة بالعقد وغيرها!..
- من ابرز سمات المسلم بان يكون فاطن راغبا للعلم والبحث يعني باختصار بان لا يكون امعه يجري خلف الاراء دون بحث وتأكد ....
من كتاب رسالة ابن القيم الى احد اخوانه ""أن المتقين كلهم على طريق واحد ومعبودهم واحد وأتباع كتاب واحد ونبي واحد وعبيد رب واحد فدينهم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد ومعبودهم واحد فكأنهم كلهم إمام واحد لمن بعدهم ليسو كالأئمة المختلفين الذين قد اختلفت طرائقهم ومذاهبهم وعقائدهم فالائتمام إنما هو بماهم عليه وهو شيء واحد وهو الإمام في الحقيقة ""..
ها نحن نتفق سويا إلى أن الحديث في أمور الدين والعقيدة والحديث النبوي والتاريخ الإسلامي والفقة وغيره يجي ان يكون من أهل الإختصاص أو أن يراجع من أهل العلم والفتوى
أتفق معك أخي على هذه النقطة ، حقيقة أعجبني طرحكم لهذه الشجاعة في النقد البناء لأنها فكرة تحتاج إلى مراجعة خصوصا مع تعصب الكثير من طلبة العلم وسامعية إلى فلان وفلان وقد يكون فلان هذا وذاك ممن ليسوا باهم اختصاص حتى ولوا أخطأ ، بل نجد منهم اصرارا في الدفاع عن خطأه من باب الإجتهاد يتناسون بسبب التعصب أن الإجتهاد هو لصاحب الإختصاص وينطبق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم بأن المصيب له اجران والمجتهد المخطئ له أجر وهذا بالضرورة لا ينطبق على الجاهل في أمور الاختصاص الشرعي بالمصيبة أعظم اذا أخطأ في رواية أو حديث وأخذه العوام من الناس وبالتالي غذا أخذنا مثالا حيا هو ما شرت له في كلامك حول كتاب الدكتور الفاضل السويدان
شكرا أخي الفاضل على طرح هذه المٍسألة ومنا إلى الجيل الواعي
أيها الإخوة الأكارم ، هناك مبدأ نحن متفقون عليه ، وهو أن يكون الكلام في كل أمر لأهله ، ومسيء ، ومتطفل ، وظالم من يتكلم في أمر هو ليس من أهله .
لكن أن يعتمد في تحديد من هو أهل ، ومن هو ليس بأهلٍ على الشهادات ـ فهذا خطأ فادح . نعم إذا كنا نجهل هذا الشخص ، نعم إذا كان هذا الشخص نكرة على الساحة ، فلا حيلة لنا إلا اعتماد الشهادة . والشيخ الترابي ليس نكرة .
وصدقوني أن ثقتي بالدكتور محمود الكبيسي الذي أتباع مقالاته لم تأت من شهاداته ، وإنما من دراسته الدينية في المساجد ، وعلى المشايخ ، كما علمت .
والشيخ الترابي من هذا الطراز ، فهو تتلمذ على يد والده ، شيخ طريقة صوفية أقلية ، فحفظ القرآن الكريم صغيرا بعدة قراءات ، وتعلم علوم اللغة العربية والشريعة في سن مبكرة على يد والده ، وجمع في مقتبل حياته أطرافا من العلوم والمعارف لم تكن ميسرة لأبناء جيله خاصة في السودان .
المصدر
(http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/38.htm(
إذن فالشيخ الترابي تخرج في المساجد ، وعلى يد الشيوخ ، وكلامه في الشريعة في جميع ما كتب ـ على عدم قناعتي به ـ تدل على متانة ، وتمكن .
ثم إن دراسته القانون أعطته قوة أخرى ، فالقانون فقه ، لكنه فقه وضعي ، وضعه البشر ، وكليات القانون تدرس طلابها (علم أصول الفقه) وهو من علوم الشريعة لأنه عدة للقانوني ، كما هو عدة للفقيه .
كلي أمل ألا يكون عدم قناعتنا برأي جديد سببا في الانتقاص من صاحب الرأي ، وكل رجل يؤخذ منه ، ويرد عليه ما عدا الأنبياء ، عليهم السلام .
ثم ألا ترون أننا دخلنا في نقاشٍ يكاد ـ أقول : يكاد ـ يكون ثانويّاً بينما غفلنا عن أفكار قيمة وردت في مقال الدكتور الكبيسي ؟
أعتقد أنَّ التعليق الذي ينبغي أن نعنى به هو التعليق الذي يثري المقال ، بالتركيز على أفكاره الإيجابية والسلبية ـ من وجهة نظر المعلق ، طبعاً ـ التركيز على الإيجابية بالتعزيز ، وعلى السلبية بالنقد البناء .
مع تحياتي لصاحب المقال ، وتقديري لما ورد فيه من أفكار متوازنة ، تنم عن سعة أفق ، ورحابة صدر ، وسلامة نية ، وللإخوة المعلقين كل التحية والاحترام .
RSS تغذية للتعليقات على هذه المادة