(وقت القراءة: 3 - 5 دقائق)

لا بد لكل منصف حريص على براءة ذمته من الأعراض أن يسعى جاهداً لالتماس العذر لمخالفيه، ونحن إذ آلينا على أنفسنا التزام هذا المبدأ ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، فإنا ملزمون لا ريب بتطبيقه -من باب أولى- في حق رجل بحجم طه حسين.

قد لا نبالغ إن قلنا أن طه حسين كان يتمتع بعقلية فذة، فمع افتقاره إلى نعمة البصر منذ طفولته المبكرة  قدم مثالاً رائعاً في التفاني والإخلاص في سبيل العلم والعمل، ولعل المحتل البريطاني قد انتبه لهذا الأزهري النجيب الثائر على جمود أمته، والمتحمس لنهضتها وإيقاظها من رقدتها، فانتهز الفرصة ونجح في استقطابه والتأثير عليه كما فعل مع الكثير من أعلام النهضة المصرية، وقد تجلى هذا التأثير في أعماله الأخرى تجلياً أكثر وضوحاً، ومن ذلك موقفه من قصة النبيين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام كحقيقة تاريخية في كتابه (في الشعر الجاهلي) بالرغم من ذكرها في القرآن الكريم، وما تبع ذلك من محاكمة، حيث أكد طه حسين على تشبثه بالإسلام كعقيدة يؤمن بها، بالرغم من تشكيكه ببعض الثوابت التي نص عليها، وكأنه يستند بذلك إلى نظرية ازدواجية الحقيقة التي انتشرت في أوربا إبان عصر التنوير كحل توفيقي بين الإيمان بالمسيحية بكل ما فيها من تناقضات وبين نتائج البحث العلمي التي لا يخطئها الحس والعقل.

لقد مر بنا في مواضع عدة من هذه الدراسة ما يشير إلى احتمال فقر ثقافة طه حسين الإسلامية، وكذلك جهله بالكثير من الأسس الحضارية التي قامت عليها دولة الإسلام، خصوصًا وأنه لم يكمل تعليمه في الأزهر، وقد انتقد الدكتور زكي مبارك هذا الجانب في طه حسين بشدة فقال فيه: "ولعلي ما رأيت في حياتي رجلاً قليل العلم مع الصيت البيّن كما رأيت طه حسين، ومع قلة محصوله العلمي تراه يتكلم كلام المحققين ويمضي فيبني ويهدم وينقض وكأنه عالم محقق أخذ بنواحي المعارف الإنسانية في القديم والحديث"[1]، وقد يشهد لهذا الكلام ما نقلناه من مفاهيمه المغلوطة عن حقيقة الإسلام وعلاقته بالفلسفة، وكذلك وجه الخلاف الكبير بين الإسلام والمسيحية المعاصرة. وعلى أي حال فإن الترجيح بين احتمالي جهله أو تجاهله لتمرير ما يحلو له من أفكار قد يبدو متعذراً، مما يجعل البت بقرار نهائي حول نوايا الرجل أمراً صعب المنال.

أما منهج البحث الذي وضع طه حسين كتابه هذا على ضوئه فلا أرى فيه ما يؤهله لاستحقاق كل ما حاز عليه من أهمية، ولا يشفع للكاتب هنا كون كتابه موجهاً للعامة كما أوضح في مقدمته، إذ لا يخفى أنه قصد بوضعه في تلك المرحلة التاريخية وعلى النحو الذي صنفه فيه أن يكون بمثابة برنامج للعمل إبان خروج المحتل من مصر وبدء مرحلة الاستقلال والإعمار، وهو الكتاب الذي رُشح من خلاله لتبوء منصب مراقبٍ عام للثقافة ثم وزيرٍ للمعارف. إذ لا يخلو هذا الكتاب من السطحية واللاموضوعية، بل يمكن القول بأن طه حسين كان يقرر الحقيقة التي يريد الوصول إليها ثم يستعرض ما يؤيدها من أوهام تاريخية مبتسرة ومؤولة حسب منظوره الخاص, والتي قد تكون متناقضة مع ما يرد في مواضع أخرى من الكتاب، ولعله يتوهم بذلك أنه منتهج للشك الديكارتي كما صرح في كتابه (في الشعر الجاهلي).

يضاف إلى ما سبق عدم جزم طه حسين في كثير من المواقف وتردده فيها، إذ يقول عمر فروخ في نقده لمنهج الشك عند طه حسين: "فهو أبداً متردد بين المفهوم وغير المفهوم والمتحول والثابت والممكن وغير الممكن"، ويقول العقاد: "هناك النقيصة الظاهرة في أسلوبه بين الحزم والتشكيك، إن أخصب الألفاظ في كلامه من أمثال: أزعم، قد أزعم، لعله يكون، ولعله لا يكون"[2]، وقد وردت هذه الألفاظ مراراً في كتابه هذا. والطريف أن إسماعيل أدهم الذي كان تلميذًا لطه حسين قد أحصى عليه أربعة أخطاء في منهجه للبحث وهي: مزج الجانب العلمي بالذاتي أو الفني، عدم التحوط في البحث، بعض التطرف في الاستنتاج، السطحية في استقصاء الأسباب[3]. ولعل أبرز من انتقد طه حسين وطعن في أهليته العلمية وأمانته وقدرته على المواجهة هو صديقه السابق الدكتور زكي مبارك الذي انشق عنه ودعاه للمواجهة على صفحات مجلة البلاغ في عام 1935، ثم ادعى -حسب أنور الجندي- أن طه حسين لما عجز عن التصدي له بدأ يدبر له في الظلام![4]

من جهة أخرى، فإن اهتمام طه حسين بنهضة بلاده أمر يصعب التشكيك فيه، وقد نقلنا عدداً من النصوص التي تحمل الكثير من المشاعر الصادقة والناطقة بحرصه على مصلحة شعبه وبلاده، وأمله في رقيهم ونهضتهم، ويؤكد ذلك سعيه الدءوب لتحقيق أمنيته في تطوير التعليم عندما أسندت إليه مهام وزارة المعارف عام 1950، ولا ينقض ذلك استغلالُه هذا المنصب لإحلال ثقافته العلمانية في التعليم المصري.

إذن وبغض النظر عن حكمنا على نوايا طه حسين ومقاصده، فإن دعوة العلمنة والتغريب -أياً كانت مبرراتها- لم تثمر في بلاد المسلمين من الخير ما راهن عليه دعاتها، فكل ما جناه المسلمون هو السقوط في أزمة التبعية المزمنة، وضياع هويتهم التي امتازوا بها منذ فجر الإسلام، فلا هم استبْقوا جرثومة عزتهم، ولا حققوا وعود نهضتهم.

يقول العالم الإنجليزي "إرنست جيلنر": "إن النظرية الاجتماعية التي تقول إن المجتمع الصناعي والعلمي الحديث يُقوِّض الإيمان الديني صالحة على العموم، لكن عالم الإسلام استثناء مدهش وتام جداً من هذا!! إنه لم تتم أي علمنة في عالم الإسلام، إن سيطرة الإسلام على المؤمنين به قوية، وهي أقوى مما كانت من مائة سنة مضت، إن الإسلام مقاوم للعلمنة في ظل مختلف النظم الراديكالية والتقليدية والتي تقف بين النوعين (...) والإصلاح الذاتي استجابة لدواعي الحداثة في عالم الإسلام يمكن أن يتم باسم الإيمان المحلي، وليس على حساب الإيمان"[5].

 

 


[1] أنور الجندي، ص 168

[2] السابق، ص 163

[3] نفسه، ص 154

[4] نفسه، ص 205

[5] نقلاً عن د . محمد عمارة في تعليقه على مقال للقس جوتفرايد كونزلن، مأزق المسيحية والعلمانية في أوربا، تقديم وتعليق د. محمد عمارة، نهضة مصر، 1999 ، د .ط، ص 41 – 42

||نبذة عن المؤلف||

أحمد دعدوش

أحمد دعدوشكاتب وباحث وإعلامي.حاصل على بكالوريوس في الاقتصاد ودبلوم العلاقات الاقتصادية الدولية وليسانس في العقيدة والفلسفة، إضافة إلى دورات في الإعلام والإخراج التلفزيوني من مراكز دولية.أعد وأخرج العديد من البرامج والأفلام الوثائقية.صدر له كتاب "ضريبة هوليود" عن دار الفكر في دمشق، وله عشرات الأبحاث والمقالات والتحقيقات المنشورة ورقياً وإلكترونياً.