(وقت القراءة: 8 - 15 دقائق)
عاشت الأميرة الصغيرة كهرمان ابنة السلطان شرّهان في قصر مثل الأحلام، تزينه الأشجار والأزهار، وتملؤه الأطيار بأعذب الألحان..

القصر كبير كـبير.. مصنوع من المرمر والياقوت.. كل ما في القصر ثمين.. ستائره.. أبوابه.. بسطه.. سرائره.. كل شيء من أجود ما يمكن أن يكون. الأميرة كهرمان تعيش في هذا القصر برفقة مربيتها.. الخالة شُكران، ويحيط بالقصر مجموعة من الحراس الأقوياء..
لم تكن كهرمان راضية عن عيشتها، كل هذا الرخاء، النعيم، الثراء.. تشعر أنه سجن.. قيود.. حواجز.. أشياء تحجبها عن الناس.. عن أقرانها البنات.. عن الشعب.
القصر بعيد عن المدينة.. فوق ربوة عالية نائية.. تحيط بها الأسوار، ولا يمكن الوصول إلى القصر إلا بإذن شخصي من السلطان.
عاشت الأميرة في هذا المكان معظم حياتها.. بعيدة عن أمها السلطانة نورهان وأبيها السلطان شرّهان.. ولا تراهما إلا في المناسبات المتباعدة.
أبوها السلطان كان يخاف على ابنته من الشعب.. بسبب ظلمه وبطشه، ويعلم أنهم يكرهونه.. يخشى أن ينتقموا منه بقتل ابنته، كما يخشى أن تنكشف صورته الحقيقية أمامها ، فهي تظنه حاكماً عادلاً.. نزيهاً.. يحب شعبه، وشعبه يحبه.. وهي تشعر أنه طيب القلب، فهو معها لطيف لطيف، لم تظن يوماً أن وجه أبيها الهادئ الوقور قناع رقيق لوجه آخر يعرفه الناس كلهم.. ويخفى عليها لوحدها.
* * *
كان السلطان يخاف أن تعرف ابنته أسراره.. أن ترى ما يفعله بالشعب من ظلم وجور.. أبعدها عن عاصمة السلطنة، بنى لها قصراً في منطقة نائية معزولة، لا ينقصها شيء ولا تحتاج إلى أحد..
السلطان شرّهان كان مرهوباً عند عامة الشعب، لا يجرؤ شخص على مخالفة أوامره السلطانية.. يأمر فيطاع.. يظلم فيهاب.. من يعصيه يكوى بالحديد والنار..
الشعب يخاف منه ويخشى ظلمه.. وهو ينقسم إلى أربعة أقسام:
قسم: ينتفعون منه.. يعيشون على فُتاته وظلمه للناس، لا يفكرون إلا بما يجنون من مكاسب، يمدحونه ويعظمونه.. هم أكثر الشعب بغضاً له وكراهية، خزائنهم ملأى بعطاياه.. وأيديهم ملطخة بالدم..
وقسم ثانٍ: يأتمرون بأمره.. يعملون في الجيش والسلطة والإدارة.. ينفذ جرائمه بواسطتهم، لا يستطيعون الرفض، يخافون على أنفسهم وأسرهم من بطشه وظلمه، يحاولون أحياناً تخفيف الأحكام عن الناس.. وإذا اكتشف السلطان واحداً منهم سجنه وعذبه دون رحمة..
وقسم ثالث: محايدون تماماً.. يعيشون بعزلة.. يرفضون بصمت وجود السلطان وأفعاله، يفضلون الأعمال البسيطة البعيدة عن سلطة السلطان.. يعملون بالحِرَف والتجارة.. يغمضون أعينهم عما يجري حولهم، يدعون ربهم ليخلصهم مما هم فيه.. لكنهم لا يفعلون أي شيء، أي شيء.. حتى إنهم لا يتكلمون فيما بينهم بأدنى أمر يتعلق بالسلطان وحاشيته.
أما القسم الرابع والأخير؛ فقد كان متمرداً بقوة.. رافضاً بعنف.. لكل ما يقوم به السلطان من أفعال منكرة.. شريرة.. وفي هذا القسم من الناس؛ أدباء وعلماء ومفكرون.. فضلاً عن عامة الشعب، بعضهم دخل المعتقلات، بعضهم عذِّب حتى مات.. منهم من هاجر إلى بلاد بعيدة.. ومنهم من لجأ إلى الوديان والسهول والجبال؛ شكلوا مجموعات سرية تقاوم السلطان وشروره، تلجأ إلى مهاجمة جنوده وقوافله، تستولي على ما في هذه القوافل من سلاح ومعدات وتموين غذائي متنوع.
وهذا القسم الأخير أشد الأقسام إزعاجاً للسلطان، يثير غضبه وحنقه، فيصدر أوامره الصارمة باستخدام كل أساليب البطش والقوة للقضاء عليهم.. ومع ذلك كانت أعدادهم تزداد ولا تنقص.. وإمكاناتهم تقوى ولا تضعف..
* * *
الأميرة الصغيرة الجميلة كهرمان لم تكن تعرف عن ذلك شيئاً، حياتها تمضي بشكل هادئ رتيب، تقرأ الكتب الكثيرة المتنوعة، تمارس هواياتها المسلية.. ترسم لوحات طبيعية جميلة.. تلعب بألعابها الفريدة التي أحضرها لها السلطان من جميع أنحاء العالم، تشدو مع البلابل والحساسين، تعيش مع الطبيعة الجميلة؛ تزرع الورود والرياحين.. تسقي الأشجار وتقطف الثمار.. تطعم الدجاج والصيصان.. تلعب.. تلهو.. تفرح.. الحياة بالنسبة لها عالم آخر، غير ذلك العالم الذي يعيش فيه الشعب.. عالم مستقل.. لا جراح فيه ولا آلام.. لا جوع فيه ولا مرض..
* * *
الخالة شُكران مربيتها تعرف كل شيء.. تتألم لما يحدث للشعب، تتجنب قسوة السلطان وظلمه، تعلم أنه ميت القلب، يعامل الناس دون رحمة.. حتى زوجته السلطانة نورهان، لا يعبأ بآلام الناس، يسعى لإرضاء غروره وحبه المجنون للمال والسلطة، يحتقر الناس جميعاً، يظن أنه لو خفف قبضته عن الشعب لانتهى سلطانه واضمحل.
الخالة شُكران تعلم أنه آوى إليه المجرمين واللصوص، أعطاهم مكانة عالية في المجتمع، فبدلاً من أن يرميهم في السجون التي صنعت أصلاً لأمثالهم، سلمهم أكبر مراكز السلطنة، فقاطع الطرق أصبح وزيراً للأمن، وعدو العلم أصبح وزيراً للعلوم وهو لا يعرف كيف يكتب اسمه، ووزير الثقافة لا علاقة له بالثقافة.. وهكذا جعلهم في أماكن لا تليق بهم فعاش أفراد الشعب في دوامة لا يستطيعون الخلاص منها..
* * *
الخالة شُكران تعرف هذا وأكثر، لكنها تحب الأميرة الصغيرة، فقد ولدت على يديها.. ولا تستطيع أن التخلي عنها، لم توافق يوماً على ما يفعله السلطان لكنها ضعيفة.. لا تجرؤ حتى على النظر في عينيه، كما أنها سعيدة برفقة الأميرة كهرمان، وتخشى أن تكتشف الأميرة في أحد الأيام ظلم أبيها.. فهي طيبة القلب ترفض ظلم الآخرين، حتى الحيوانات الصغيرة تخاف عليها.. فلو علمت أن أباها يقوم بكل ذلك السوء لأصيبت بحسرة شديدة.. وربما سقطت من هول الصدمة.
* * *
الأميرة كهرمان لم تكن سعيدة بحياتها، رغم كل ما يحيطها من فخامة وثراء، كل هذا لا يعني لها شيئاً، لا تشعر أنها تعيش عيشة سوية، تريد أن تكون مع أسرتها في مكان واحد.. كلما سألت أباها عندما يزورها مع أمها، عن ندرة زياراتهما إليها، عن سبب عزلتها ووحدتها، وترجوه أن يأخذها معه...؛ تسمع جواباً لطيفاً منه، يختلف تماماً عن أسلوبه مع الآخرين.. يقول لها: "هذا المكان فيه كل ما ترغبين فيه، أنا أخشى عليك من المدينة.. فقد تتعرضين للأخطار.. كما أن المدينة مليئة بالعمال والجنود والمصانع والضجيج.. فلماذا نزعجك بكل هذا؟".
* * *
الأميرة كهرمان قلبها طيب طـيب .. تصدق أباها وتقتنع بسرعة، لكن عندما يعود أبوها وأمها إلى المدينة، تعود هي إلى وحدتها، ويصبح القصر الضخم الرائع سجناً يحوي كل وسائل التسلية والترفيه..
* * *
في كل ليلة.. تجلس في ضوء القمر.. تتأمل السكون.. تفكر في حياتها.. "هل سأظل في هذه الوحدة طوال حياتي.. لا صديقة، لا زوج، لا ولد..؟".
صارت تحلم بفارس يأتي من بعيد يحملها على حصانه الأبيض، يخطفها من هذا القصر، لتعيش بين الناس؛ حياة طبيعية، ولو في كوخ حقير، تعيش ببساطة.. نعم ببساطة.. ولو أكلت خبزاً جافاً.. وقرصها البرد والجوع..
* * *
مسكينة كهرمان، كم هي طيبة القلب، ما أدرى هذه الأميرة بقرصات الجوع والبرد.. هل ذاقت يوماً طعم الألم والتشرد والظلم..؟!.
كان قلبها يردد:
"كرهت القصر.. كرهت الحياة.. آه لو تتحقق أمنيتي وأعيش في كوخ بسيط.. في أسرة فلاح فقير.. بدلاً من كل هذا الثراء، وهذه الحياة السلطانية المريرة.. أشعر أنني في سجن لا خلاص منه..".
* * *
الأميرة الجميلة كهرمان كانت أحياناً تخرج بعد أن تستأذن مربيتها الخالة شُكران من نفق سري، في غفلة عن حراس القصر، تمتطي فرسها الرمادية، تنطلق برشاقة، تطير بالأميرة من مكان إلى مكان، تقفز عالياً في الهواء.. ثم تحط أقدامها برفق فوق التراب كأنها تلامس الأرض بحوافرها، تشعر الأميرة بالخفة والرقة.. كأن الفرس تعلم أن على ظهرها أميرة طيبة القلب.
ليس من عادة كهرمان أن تتأخر حتى لا يكتشف أحد غيابها، فلا يعود باستطاعتها الخروج مرة ثانية..
حفظت كهرمان كل أطراف الوديان والجبال التي تحيط بالقصر، لم تكن تبتعد كثيراً حتى تعود بسرعة.. صادقت كل الأزهار والأشجار والأطيار، ألفت الأمكنة كما يألف الإنسان الإنسان.
شعرت أنها تشبه كل شيء في الطبيعة، بل إنها شيء من الطبيعة.. ماء في النهر.. أو وردة في البستان.. أو طير في السماء..
من فوق فرسها الرمادي راحت تطير مثل النسيم.. تحمل طفولتها.. شبابها.. روحها التواقة للحرية..
للمرة الأولى تترك الفرس تقود نفسها.. تنسى أن عليها العودة إلى القصر بوقت قصير.. تنسى ضرورة عدم الذهاب بعيداً.. نست أنها أميرة هذه الوديان والتلال والجبال... صارت فراشة تهيم في الحقول..
* * *
فجأة..
انزلقت قدم الفرس وهي تركض على حافة منحدر شديد الوعورة.. انقلبت الفرس على رأسها.. طارت الفتاة هذه المرة طيراناً حقيقياً.. طارت أكثر من خمسة أمتار.. ثم حطت فوق الرمال والصخور.. الفرس المسكينة انقلبت في اتجاه آخر.. المنحدر جذبها بقوة لثقل وزنها.. انقلبت حيناً على رأسها.. وحيناً آخر على جنبها.. ثم مؤخرتها.. وظلت تنقلب.. وتنقلب.. وتنقلب.. وصدى صوتها الصاخب يتردد في أنحاء المكان.. حتى استقرت في قعر الوادي.. وتبدد صوتها تماماً.
* * *
الأميرة الجريحة لم تفقد وعيها لحظة واحدة.. عاشت تفاصيل الحادث المروِّع، شاهدت الفرس تتشقلب على المنحدر.. كان المنظر مرعباً.. لأول مرة في حياتها تشعر بالرعب.. بالهلع.. تشعر أن الموت قريب منها.. تراه بعينيها..
الأميرة المسكينة عاشت الألم الفظيع.. ذاقته للمرة الأولى، صارت تجهش بالبكاء.. مشهد الفرس وهي تتلوى من الألم غلب الجراح الكثيرة التي أصابتها، غرقت بالبكاء حزناً على ما أصاب الفرس، الدموع انهمرت من عينيها بكثرة لأول مرة.. من هول الصدمة لم تشعر بالدماء تغطي قدميها.. لم تظن أن حادثاً مؤسفاً مثل هذا سيصيبها يوماً ما.. حاولت الوقوف.. الألم الفظيع سرى في عظامها مثل البرق.. أدركت أنها لن تقوى التحرك من مكانها، بدا شبح الموت يخيَّم فوق رأسها.. تشعر أنه يدنو منها.. سيصيبها كما أصاب الفرس المسكينة.. فمن ذا الذي يستطيع اكتشاف مكانها.. "سأنزف حتى الموت".. لم تستطع مقاومة هذا التصوّر.. صار الألم أقوى منها.. ضعفت أمامه.. استسلمت.. ازداد بسرعة حتى غُشي عليها، وفقدت وعيها تماماً..
* * *
الخالة شُكران أصيبت بقلق شديد.. "هذه أول مرة تتأخر كهرمان عن العودة..".
انتظرت بعض الوقت.. "الشمس تكاد تغيب.. والأميرة لم ترجع بعد".
الحراس اكتشفوا غياب الفرس الرمادية.. بدأ الذعر يدب بينهم.
الخالة شُكران أدركت أن سوءاً قد وقع..
"لا بد من إخبار السلطان في الحال".
لم تخشَ شُكران انتقام السلطان منها.. لم تخش أن يتهمها بالتقصير والإهمال.. هي أكثر الناس معرفة ببطش السلطان وجبروته، فكيف في أمر يخص ابنته الوحيدة.
ومع ذلك يجب التحرك بسرعة.. ربما تكون الأميرة في خطر وتحتاج لمساعدة.
* * *
على الفور أطلقت شُكران سرباً من الحمام لا يطلق إلا عند الخطر، ينطلق بقوة وسرعة بالغة نحو قصر السلطان، فيعلم السلطان أن سوءاً قد حصل لابنته، هذه الطريقة أسرع من إرسال فارس يقود أقوى خيول السلطان.. فالأمر لا يحتمل تضييع لحظة واحدة.
حضر السلطان بوقت قصير برفقة مجموعة كبيرة من الجنود، بحثوا في كل مكان، لم يترك الجنود متراً إلا وبحثوا فيه.. صعدوا الجبال.. نزلوا الوديان.. تتبعوا كل أثر ممكن.. نزلوا النهر.. "ربما كانت الأميرة تسبح في الماء"..
لكنهم ما وجدوا شيئاً..
السلطان استدعى مزيداً من الجنود..
استمر البحث أيام وأيام.. في الليل وفي النهار.. لم يسمح السلطان للجنود بالراحة والنوم.. كثيرون منهم ناموا فوق خيولهم.. لم يجرؤا على العودة دون اكتشاف مكان الأميرة..
* * *
أما السلطان فقد خرج بنفسه يبحث عن ابنته..
يحمل سوطه يضرب الفرسان والجنود ليبحثوا بجد دون تكاسل.. حضرت فرقة صغيرة ماهرة بالتسلق.. قال قائدها للسلطان إنهم وجدوا فرس الأميرة هالكة في قعر الوادي السحيق وعليه أن يرسل الجنود إلى ذلك الوادي ليبحثوا في كل ناحية فيه.. تجمع الجنود كلهم هناك.. ومن خشي النزول في الوادي أمر السلطان بقتله.. لم يكن بعض الجنود يعرفون تسلق الجبال والنزول في المنحدرات، وأكثرهم لا يملكون المعدات اللازمة.. فسقط منهم كثيرون في الوادي وماتوا.. والسلطان لا يبالي بصراخهم وآلامهم..
* * *
أحد القادة المقربين من السلطان يئس من العثور على الأميرة، تأكد أنْ لا أثر لها في الوادي.. خشي أن يموت الجنود كلهم وهم يسقطون في قعر الوادي بالعشرات..
اقترب من السلطان منحني الرأس.. استعطفه من ليسمح له بالكلام.. أشار إليه السلطان..
قال القائد للسلطان:
"مولاي العظيم.. الجنود يهلكون.. مضى على البحث أيام ولم نجد شيئاً.. لو كانت مولاتي الأميرة سقطت في قعر هذا الوادي فمن المستحيل أن تكون على قيد الحياة.. والذئاب سوف..".
لم يكد القائد يتفوه بهذه الكلمات.. وقبل أن يكمل كلامه.. أشار السلطان إلى جندي قربه آمراً بقطع رأس القائد.. فنفَّذ الأمر على الفور دون أن يقول السلطان كلمة واحدة.
عندما رأى الجنود ما حدث لقائدهم.. أصابهم الرعب الشديد، سرى الخوف بينهم، صاروا يركضون كالمجانين في كل جانب، عسى أن يجدوا شيئاً يهدئ السلطان الظالم.. لكن واحداً منهم لم يكن يتمنى اكتشاف الأميرة ميتة خوفاً من بطش السلطان.
* * *
في هذا الوقت كانت الأميرة الجريحة كهرمان تتعافى وتستعيد وعيها في مكان آخر لا يعرف جنود السلطان مكانه.
في كهف بعيد بعيـد.. في بطن جبل شديد الانحدار.. كانت الأميرة ممددة على فراش بسيط تحاول فتح عينيها دون أن تعلم أين هي وما حدث معها بعد تلك الحادثة الرهيبة؟!
اكتشفت أن مجموعة من الرجال عثروا عليها ملقية في الوادي مضرجة بدمائها.. كان من بينهم رجل يعرف بالطب، حملوها فوق خشبة... ونقلوها بعناية إلى هذا الكهف، طمسوا آثارهم، أخفوا دماء الفتاة وغطوها بالتراب حتى لا يكتشفها أحد ويعرف جنود السلطان مكانهم فيبطشوا بهم.
الطبيب عالج جراح الأميرة وكسورها.. يحقنها بالدواء ويمدها ببعض الغذاء السائل حتى تتغلب على ما أصابها وتستعيد صحتها..
* * *
فتحت الأميرة كهرمان عينيها.. لم تستطع الكلام.. علمت أن هؤلاء الرجال أنقذوها من الموت.. لكن من يدري.. لا شك أنهم قطاع طرق.. هاربون من القانون.. مجرمون.. لصوص.. بالتأكيد هم لصوص.. فلماذا هم يسكنون في الجبال؟!
* * *
حمد الطبيب ربَّه على سلامة الفتاة.. جاء مجموعة من الرجال والنساء يهنئون الفتاة على سلامتها.. طلب منها أحدهم أن تخبرهم عن مكان أسرتها.. هم بالتأكيد قلقون على ابنتهم..
لم تتكلم الأميرة بكلمة واحدة..
اعتقدوا أنها لا تزال مريضة.. الصدمة أخرستها..
الطبيب طمأنها أنها أصبحت بخير ولا يوجد خطر على حياتها.. لكنها لا تستطيع الحراك الآن ففي ذلك خطر عليها..
وكان مع الرجال بضعة نساء قمن بخدمة الأميرة.. غسلن جسدها وثيابها وصرن يطعمنها بلطف ومواساة لها.
الطبيب يأتي إليها من حين إلى آخر يطمئن عليها، يُسمعها كلاماً جميلاً؛ يقول لها إنها في عمر ابنته، ثم يتركها باحترام مثلما دخل دون أن يعرف من هي، لكنهم كانوا متأكدين أنها ابنة أسرة كريمة ثرية بسبب الثياب التي كانت ترتديها، وظنوا أنها قد تكون هاربة من أسرتها لسبب من الأسباب.
* * *
لاحظت الأميرة كهرمان أن الرجال والنساء لطفاء معها، لكنها ظلت خائفة من أن تقول لهم إنها ابنة السلطان، فربما يطلبون من والدها مبلغاً كبيراً من النقود الذهبية، وربما يعذبونها أو يقتلونها..
فكرت الأميرة: "لكن كيف يكون هؤلاء الرجال مجرمون؟!"
سمعتهم يتحدثون إلى بعضهم بعضاً.. عرفت أنه بينهم الطبيب والشاعر والمهندس والرسام والعالم والمؤلف...؟!
في كل لحظة كانت تزداد احتراماً لهم..
سمعتهم يتحدثون عن الثورة.. عن ظلم السلطان للشعب.. عن جوع الناس.. عن آلامهم.. عن القهر الذي يعيشونه.. عن السجون.. عن القتل.. عن التعذيب..
سمعت كلمات مثل: جور السلطان.. جشع السلطان.. المساجين.. القتلى.. السجون..
سمعت أشياء وأشياء لم تكن تتصور وجودها.. لم تتوقعها يوماً.. اكتشفت الظلم الواقع على الناس.. وأن أباها يسرق مالهم وقوتهم وحياتهم..
حاولت أن لا تصدق..
"كاذبون.. كاذبون.."
صارت تصرخ في أعماقها.
"لكنهم طيبون.. لطفاء.. يعاملونني بكل احترام".
"ترى ماذا سيفعلون لو اكتشفوا أنني ابنة السلطان؟".
* * *
فجأة جاء رجل على عجل..
"السلطان يبحث عن ابنته المفقودة".
سمعت الأميرة الخبر.. قالت: "سيقتلونني بكل تأكيد".
لكن معاملتهم لها لم تتغير..
جاء الطبيب، ابتسم لها كما ابتسم لها أول مرة..
"الحمد لله.. أنت بأفضل حال اليوم يابنتي.."
"ما رأيك أن تأخذي الآن فرساً من أجود خيولنا وتتوجهي إلى أهلك.. لا بد أنهم قلقون عليك.."
"لكن سيري بهدوء حتى لا تتضرري.. فجراحك لم تلتئم بعد..".
لم تصدق الأميرة الجميلة كهرمان ما تسمع..
"أهذا حلم أم حقيقة؟!".
أدرك الطبيب ما في عينيها:
"ما كنا لنفعل ما تفكرين به، لا ذنب لك أنك ابنة السلطان.. نحن لسنا بمجرمين كما يقولون عنا.. اذهبي يا ابنتي.. اذهبي.. فالناس تموت الآن من أجلك".
* * *
الأميرة كهرمان لم تكن تصدق كل ما سمعته عن أبيها، تريد إثبات العكس لهم جميعاً، فوالدها لطيف جداً معها، وهي لم تتوقع أبداً أن يكون كما يقولون...
ركبت الأميرة فرساً قوية.. ودعت الرجال.. شكرت النساء لعنايتهن بها.. سارت الفرس بهدوء إلى وجهة لا يعرفها هؤلاء الرجال..
سلكت الأميرة طرقات سرية، ودخلت أنفاقاً لا يعرفها جنود أبيها.. وصلت إلى قصرها المرمري.. ودخلت غرفة مربيتها شُكران..
كاد يغمى على شُكران من المفاجأة.. تمالكت نفسها، حضنت الأميرة، وصارت تبكي من الفرح..
قالت الأميرة:
"خالتي شُكران. سأسألك سؤالاً واحداً: هل أبي ظالم بحق الشعب؟".
أحنت شُكران رأسها.. لم تكن تتوقع هذا السؤال أبداً..
"مولاتي".
"أرجوك يا خالة.. أجيبيني"..
"كلام فارغ.. من وضع في رأسك هذا الكلام"..
"أجيبيني"..
"لنذهب أولاً إلى أبيك.. إنه غاضب جداً بسبب غيابك".
جلست الأميرة على سرير الخالة شُكران وقالت بصوت كئيب:
"الآن تأكدت أن ما قالوه هو صحيح وصادق..
يقتل الناس.. يسرق بيوتهم ويأخذ أراضيهم وممتلكاتهم بالقوة..
ويحرم أولادهم من كل شيء.. إن أبي مجرم.. مجرم.."
الأميرة تبكي بمرارة.. والخالة شُكران تحضنها وتضمها إلى صدرها..
قالت الأميرة بإصرار:
"لن أعيش هنا بعد اليوم.. لن أقبل الحياة المنعمة والناس يموتون من الجوع والألم بسبب ظلم أبي".
خافت الأميرة كهرمان أن تواجه أباها بأفعاله.. سوف ينتقم من الناس أكثر.. سوف يسجنها ويمنعها من لقاء الشعب كما كان يفعل طوال حياتها.. ولكنها هذه المرة ستفعل ما يجب أن تفعله..
* * *
قررت الأميرة كهرمان الانضمام إلى صفوف المقاومين من الشعب.. ومقاومة السلطان..
قالت للخالة شُكران: "تعالي معي..".
أجابتها: "أنت لا تحتاجين اليوم إلى امرأة عجوز كبيرة مثلي.. لقد كبرتِ..".
انطلقت الأميرة عائدة إلى الجبال.. إلى الكهف الذي جاءت منه.
* * *
جنّ السلطان عندما علم أن ابنته حية تقاتل في صفوف أعدائه..
نعم.. قاتلت معهم بعنف.. تلك الفتاة المرفَّهة البسيطة، تعلمت كيف تقاتل.. كيف تحمل السلاح.. لتحارب جنود السلطان وهم يحاولون الاعتداء على الناس والاستيلاء على أملاكهم بقوة، متسلحين بأمر من السلطان..
* * *
انتشر الخبر مثل النار في الهشيم..
"ابنة السلطان تقاتل أباها من أجل الشعب"..
سرت في أوصال الشعب روح الثورة والعزة والكرامة...
شعر الشعب بقوة هائلة..
ثار الشعب كله..
حتى جيش السلطان لم يعد ينفّذ كل أوامره..
بدأ السلطان يفقد قوته شيئاً فشيئاً..
انقلب الجيش على قائده..
أمسكوا السلطان وزجوا به في السجن.. اجتمع الناس يهتفون بحياة ابنته الأميرة كهرمان.. طالبوا بأن تكون سلطانة مكان أبيها..
الأميرة كهرمان رفضت ذلك.. لم تفكر يوماً أن تكون سلطانة، لا تحب القصور.. لكنها طلبت من الشعب أمراً خاصاً.. صارت ترجو الناس الصفح عن أبيها.. أن يسمحوا له بالرحيل بعيداً بعيداً..
توسلات الأميرة كانت أقوى من كل جرائم أبيها.. الناس طيبون.. لم يكن الانتقام هدفهم.. تركوه يغادر بلادهم وحيداً بعدما زودوه بقليل من الطعام والمال..
رحل السلطان.. اختفى.. لم يعد يسمع الناس عنه أي خبر منذ ذلك الحين..
* * *
لم تسكن الأميرة كهرمان قصراً..
عاشت كما أرادت.. مثل الشعب.. لم يسكن أحد ذلك القصر المرمري.. الناس لا يحبون سكان القصور المبنية على جراحهم..
عاشت كهرمان بعد ذلك عمراً طويلاً.. نسي الناس من هي.. لكنهم لم ينسوا قصتها.. تزوجت ابن الطبيب الذي عالجها في الكهف.. كان إنساناً بسيطاً، لكنه يعرف تماماً.. قيمة الحب، العدالة ... الرحمة والحرية.

||نبذة عن المؤلف||

د. طارق البكري

د. طارق البكري

 مواليد : بيروت 5/12/1966 الشهادات:1 – دكتوراه: مجلات الأطفال ودورها في بناء الشخصية الإسلامية / جيد جدا/ 19992 - ماجستير: الصحافة الإسلامية في الكويت مجلة المجتمع نموذجا / جيد/ 19963 - ليسانس : لغة عربية / جيد جدا مع مرتبة الشرف / 19914 – ماجستير فني اللغة العربية وآدابها في جامعة الكويت (كامل كيلاني رائدا لأدب الطفل العربي) 2005 الخبرات:عمل وكتب في عدد كبير من الصحف والمجلات اللبنانية منها :جريدة اللو...