قد يصف البعض هذه الفكرة بالهرطقة أو يصف صاحبها بالجنون.. وخاصة أن صاحب الفكرة دعا قبل سنوات قليلة إلى إنشاء جامعة عربية لدراسات الطفولة.. وإذا به اليوم يدعو إلى نقيض ذلك.. وبدلاً من فتح الجامعات يدعو إلى إقفالها..
الفكرة هذه ليست تهكمية ولا مجرد تسلية وتضييع للوقت.. بل مع بعض التفكير ربما.. وأقول ربما - ولكل حق فيما يرى - ربما نجد أنّ الفكرة أفضل من سابقتها لكن بشرط التمعن فيها وقراءة الموضوع بحيادية حتى النهاية..
الفكرة كم عرضت تكمن في العمل الجدي لإقفال الجامعات، ولا أقصد كل الجامعات، بل جامعات بعينها لإعادة برمجة تفكير الأمة وبنائها بناء جديداً محكماً يختلف عن كل الطروحات السابقة..
والذي دعاني إلى هذه الفكرة جملة قضايا تعاضدت فيما بينها لإنتاج هذه الفكرة المستحيلة) التي لو طبقت (وهي طبعاً لن تطبق سيتم تغيير شكل الأمة وتتحول إلى أمة جديدة.
بالتأكيد ما أتحدث عنه ليس حلماً. بل أضغاث أحلام... وفكر (تفريطي) لواقع ينذر بأخطار مستقبلية.. يجدر التنبه إليها، ولست هنا بمعرض الحديث عن هذه الأخطار من منطلق نظري.. بل أريد أن أطرح هذه الفكرة التي لا تملك أي أمل بالحياة.. أقله في المليون سنة المقبلة.
الفكرة لا تبدأ بإغلاق الجامعات. أي لا نبدأ من النهاية كما يحدث في معظم الأفكار التغييرية أو (الرجعية؟؟). بل تنتهي - وأشدد على كلمة تنتهي - بإغلاق الجامعات، وهنا مكمن القضية..
وهناك أسباب كثيرة دعتني إلى طرح هذه الفكرة أولها أننا دائمو النقاش عن مستويات الطلبة في الجامعات، ولدينا قلق كبير على الخريجين الذين باتت مجتمعاتنا لا تستوعبهم ولا يقدمون جديدا، خاصة أن بعضهم يملكون شهادة غير ذي جدوى، وكثير من هذه الشهادات لا تعترف بها بعض دولنا العربية كما يجد الخريج نفسه بعد دخوله سوق العمل أن معظم ما تعلمه مختلف عما في الكتب والمناهج.
هذه نقطة..أمّا الثانية فهي طازجة جداً وهي ما رأيناه قبل أيام قليلة من انطلاق جامعة كبرى في السعودية (جامعة الملك عبدالله) ترتكز على العلوم التطبيقية وأساسها علماء جديون من العالم، وتركز على البحث العلمي لا على التعليم النظري.
ومن الأسباب أيضاً فكرة رائدة عمل عليها متخصص من الشقيقة سوريا بإنشاء روضة للأطفال لا يتم التكلم فيها سوى باللغة الفصحى حيث تبين بعد سنوات ومن خلال دراسات علمية متخصصة تفوق طلاب هذه الروضة الذين وصلوا الى الصف السادس على اقرانهم الذين التحقوا بروضات تقليدية..
وأعتقد أن نتائج الفكرة تستحق التأمل لإنتاج شيء جديد.
ومن الأسباب أيضا أن محررة صحافية سألتي يوماً ماذا أتمنى أن أعمل لو خيرت.. فأجبتها لو قدر لي أن أعمل الذي أتمناه.. فأريد أن أكون مربيا في رياض الأطفال.. طبعاً بشرط أن أحظى براتب مناسب. لكي أتخلى عن عملي مع الكبار الذي يدر مالاً أكثر.. لكني أفضل العمل مع الأطفال لو كان الأمر أمنية.. وأن يحقق لي المدخول نفسه.. وهذا حلم لا يتحقق.
ومن الأسباب أيضاً أن قضايا عديدة أثيرت حول موضوع التعليم.. وفي يوم قلت لرئيس قسم اللغة العربية في إحدى الجامعات الكبرى\، وهو من هم ممن أجل واحترم، واعتبره من الكبار في علمه وأدبه.. قلت له: لو كان الأمر بيدي.. ولو كنت وزيراً للتربية لعينتك مدرساً لأطفال الروضة..
فدهش من هذا الطرح..
وتابعت قائلاً.. يا سيدي: أنت ستكون مسؤولاً عن تقويم لسان نحو 30 عربياً، لتكون ألسنتهم متقومة مثل لسانك الذي ينطق الضاد كأعجب وأجمل ما يكون.. وتنتقل مع هؤلاء الصغار مرحلة مرحلة.. وتمسك بأيديهم من الرياض حتى الثانوية..
لم أنتظر ليرد عليه وعاجلته بالثانية: تصور يا سيدي لو علمت هؤلاء ما سيكون.. هل أنتجت في حياتك الجامعية 30 طالباً مثلك مقومين اللسان وفقيهين في اللغة كما تتمنى.. لكنك بهذه الخطوة ستخرج 30 عالماً حسبما تشتهي وربما أكثر.
تابعت: وتصوّر يا سيدي لو فرغنا مجموعة من الأساتذة الكبار لتعليم الأطفال من الروضة حتى الثانوية ويكون المدرسون من كبار المدرسين في الجامعات وفي كل التخصصات.. تصور يا أستاذي ماذا سيحدث عندها؟ وعندما سيتخرج هؤلاء الطلاب ماذا تتوقع أن يكون مستواهم؟؟؟؟؟
المهم..
وبعيداً عن هذا الاستطراد نعود إلى صلب القضية، وهي إغلاق الجامعات العربية.
نحن في دولنا العربية نصرف المليارات سنوياً على الجامعات، لكن الشكوى الدائمة أن كثيراً من الطلاب دون المستوى.. بمعنى أن الطالب يصل الى الجامعة دون تأسيس..
ومن نافلة القول إنّ المراحل الأولى من عمر الإنسان هي مرحلة البناء الأولى، ولو كانت هذه المراحل ضعيفة لن تفلح بعدها كثير من المراحل..
وببساطة.. لو نشأ أحدهم على لغة عربية ركيكة لا يمكن أن نقوم لغة الضاد عنده بعد ذلك بسهولة. فنجده يلفظ الثاء سينا.. والدال ضاداً أو بالعكس.. واحص معي بعد ذلك الكثير الكثير.. من رفع ما لا يرفع وكسر ما لا يكسر..
هذا في لغتنا الأم.. عن اللغات الأخرى وعن العلوم والحساب والجغرافيا التي كلها تنصب على الحفظ وسكب المعلومات في رؤوس الأطفال دون هدف من تحفيز لسبر العلوم وابتكار الجديد منها.. الذي يجب أن يكون أول أهداف التعليم..
على أي حال..
وحتى لا أطيل.. أعتقد أن الفكرة باتت واضحة لمن وصل إلى هذه النقطة
ومن الأهمية التأكيد بعد ذلك أن الجامعات الحالية ستكون أمام خيارين لا ثالث لهما.. إما أن تتلاشى لوحدها.. لأن الطالب الذي سيتخرج في الثانوية بهذا المستوى فإن مناهج الجامعة الحالية ستكون أقل بكثير من مستواه لأنه أعد إعدادا حقيقيا.. وبذلك نختصر سنوات دراسته ونكتفي بالثانوية ولن يكون فقط متخصصا بكلية معينة بل سيكون متمكنا من جميع الكليات لأنه درس جميع المواد على يد خبراء لهم وزنهم الكبير وبذلك بدلا أن نضيع سنوات عمره ليصل ضعيفا الى الجامعة نقلب الصورة ويبدأ بشكل صحيح كما كان يفعل القدماء عندما كانوا يرسلون أولادهم إلى البادية لتقويم اللسان بدلا من أن ننتظر حتى يكبروا ولن يكون التقويم بعدها سهلا.
ومن الأشياء التي يمكن هنا الإشارة إليها.. والموضوع طويل ولا أريد الإسهاب فيه حرصاً على وقت القارئ الثمين.. أننا سنجد بعد 14 عاما وهي سنوات الدراسة من الروضة إلى الثانوية جيلاً فريدا لا يمكن مضاهاته بجيل آخر.. ثم لا يعود بعدها للجامعات دور يذكر لأن الطفل كبر وشب وعلى العلم والتعلم وأصبح مهيئا للتخصص.. وأصبحت معلوماته أكثر مما يأخذه في الجامعة..
مع العلم أن التنسيق يكون حتميا بين مع وسائل الإعلام.. وخنق وسائل الإعلام الفاسدة ووقفها لا أن نقول إنها حرية.. لأنها كيف تكون حرية وهي تدمر عقول أطفالنا.. (ولهذا طبعا موضوع آخر..).
وبذلك يمكن عندها أن تتحول الجامعات إلى مراكز بحثية معمقة.. (كما هي فكرة جامعة الملك عبدالله).. ويتم إلغاء بعض الكليات ولا سيما الأدبية.. والدينية والتربوية وغيرها ونركز فقط على الكليات التطبيقية، ونجعل البحث ديدن الطالب في الكليات النظرية، وبذلك نخفف المصاريف التي ليس لها ضرورة ونصرفها في التأسيس الأولي كما نصرفها على البحث العلمي لاحقا..
وختاماً
تلك كانت بعض النقاط التي أوردتها سريعا.. لأني لا أريد أن أطيل بل أن أوصل الفكرة التي لا يمكن تنفيذها في القرن الحالي ولا في القرن الذي يليه..
مع العلم أن ما أورته مقتضب جداً..
ويبقى في قلبي هم مصلحة جيل المستقبل من أطفال اليوم أهم عندي من كل الأحلام وكل الجامعات وكل المواقع وكل الإعلام.
التعليقات
وحيث أني أشاركه وصفه لحالة الجامعات العربية فأنا أعتقد أنه لا من وقفة للمراجعة في جميع جامعاتنا لمناقشة خطة الجامعة وطرق التدريس فيها.
لا بد للجامعة أن تفكر في إمكانات البلد وحاجاتها وتبني خطتها التعليمية على ذلك. فنحن أولاً من أمة تتبنى كتاب الله لكن ممارستنا للحياة بعيدة عن الدين والأخلاق معاً فأين الكليات التي تخرج لنا من يصلح هذا الإعوجاج. ونحن بلاد كثيرة سطوع الشمس، قليلة موارد المياه، فأين الكليات التي تبحث في الاستفادة من الشمس المحرقة، وتأتينا بالمياه من الهواء وأعماق الأرض، وتعلمنا ممارسات الاستفادة القصوى من موارد المياه المتوفرة. كما لابد أن تدخل جامعاتنا العلوم والتقنيات الجديدة. فللهندسة الميكانيكية في ألمانيا ثلاثين فرعاً أو تزيد فكم فرعاً لها في جامعاتنا؟
الأمر الآخر: لا بد من تطعيم كل قسم في كل كلية بجامعتنا بأستاذ زائر من جامعة مرموقة، وأن يستبدل هذا الأستاذ كل عدة سنوات لنجعل لنا صلة بما يدرس في جامعات العلم المتقدم، كما لابد أن يكون في القسم أستاذ أو أكثر ممن نال شهادته من دولة متقدمة.
والأمر الأخير: لا بد من إنهاء التلقين وتبني الاعتماد على المجلات المتخصصة والبحث العلمي كوسيلة للتعليم، مع مراجعة مناهج القسم وطرق تدريسه بما يحصل في الأقسام المناظرة في الجامعات الأخرى.
قد يكلفنا ذلك وقف الدراسة عاماً، وقبول عدد أقل من الطلبة في الجامعة، وزيادة الرسوم الدراسية . ولكنه سيحدث فرقاً هائلاً ملموساً وفي وقت يسير.
وأقترح أيضاً أن تكون جامعة فريدة في كل دولة لها منهج مميز وأسلوب مقنن، يفرض على باقية الجامعات التي في نفس الدولة، مما يؤدي إلى عملية خصصة للتعليم ورسم أطر سليمة له. لأن كل جامعة لو تفردت بمناهجها وأسلوبها، فستضيع وسط الجامعات الكبيرة ولن تجد لها مكان نحو العالمية.
كذلك موضوع اللغة العربية الفصحى (اللغة الأم) يجب الإلتفاف له من قبل الإعلامين والفكرين والمتخصصين، فالحرب القادمة في إعتقادي لن ستكون حرب عسكرية أو إعلامية، بل ستكون حرب بين لغات العالم، وقد لاحظت أن اللغة الإنجليزية نتيجة للعولمة قد أخذت تفرض نفسها على دول العالم، وخصوصا دول العالم الثالث والرابع والخامس وهلم جرا، وجاء الآن الوقت للدفاع عنها بشتى الطرق، خاصة وأن ميزة عالمنا العربي، تكمن في وحدة اللغة العربية الفصحى وإن اختلفت اللهجات، لذا لابد من تسخير الجهود لهذا الأمر، لما له من أهمية كبيرة عندنا كمسلمين، بسبب نزول القران الكريم بلسان عربي.
الموضوع جميل وطرحه جاء في وقته .. جزاك الله خير الجزاء ونفع بك الأمة الإسلامية العربية.
RSS تغذية للتعليقات على هذه المادة