عُرفت النجوم مُنذ وُجد الإنسان بأنها أجسامٌ نورانية تُرصع السماء , تزيّنها وتضفي عليها ثوبًا لامعًا برّاقا , لها منظرٌ بديع في الليالي السوداء المُظلمة , يريح النفس ويشفي غليل المُتأمل , ومن النجوم ما هو متوهجٌ شديد الضياء , ومنها ما هو خافتٌ بالكاد يرسل أشعته للأرض.

وعند تطور العلوم وازدهارها وظهور علم الفلك , أصبح للنجوم دورٌ آخر غير إضفاء اللمسة الجمالية على السماء , فأصبحت النجوم هي الخرائط التي تحدد للناسِ جهاتهم الأربع , وتدلهم على البلاد والطرق والأمصار , وتهدي الضال منهم في وسط الصحراء فتوصله إلى ضالته , وتم إطلاق الأسماء على النجوم وجعلها أدلة بارزة وعلامات لتسهيل الاستدلال بها .

وأصبحت النجوم كذلك رمزًا للعلو والرفعة والتميز , فمن أتقن شيءً ولمع في مجالٍ ما قيل عنه بأنه نجم , ومن صنع لنفسه المجد والعظمة قيل بأنه جاور الثـُريا أو رصع أسمه بين النجوم .

فكثيرًا ما نقرأ في كُتب القدماء عبارات لوصف العُلماء تشير بأنهم نجومٌ اهتدى بهم الناس , والقادة المُجاهدين بأنهم نجومٌ حرّكت الجيوش , والحُكام العادلين على أنهم نجُومٌ استضاءت بهم البلاد , والعُباد المُصلين بأنهم نجُومٌ نشرت النور في المساجد , وهُم النجومُ حقا .

أما في أيامنا هذه , فقد اختلت الموازين , وقـُلبت رأسًا على عقب , أو اُخترعت موازين جديدة ومفاهيم غريبة , وحوّرت وحرّفت المفاهيم القديمة , فالنجم اليوم هو لاعب الكرة الذي يجري خلفها ليل نهار لهز شباك الخصم وإرضاء الجمهور , وهو المغني الذي يتلفظ بألفاظٍ لا تمت للأخلاق والقيم بصلة بل تتجرد منها كل تجرد , ويتراقص ويتمايل بجانب الفتيات الفاتنات ويقفز ويرقص ويلهب أفئدة المُعجبين , وهو الممثل الذي يشبه المُهرج في لباسه وشكله وحركاته استجداءً لضحك المُشاهد , وهو المُلحن الذي يحتضن بكلتا يديه آلاته الموسيقية ويفني أوقاته على أعتابها بُغية الخروج بلحنٍ أو مقام , وهو مصمم الأزياء الذي يتفنن في إظهار مفاتن الجسد , وتعريته وعرضه , وهو الشاب المخدوع المحبوس داخل أسوار ستار أكاديمي وأخواتها .

اليوم , هُم النجوم الذين ينيرون الطريق , هم القدوات في الشكل والفعل والخُلق , هُم الأمل والطموح , وهم مبلغ الهمة والعزيمة , هم الذين إذا تعثرنا أو تُهنا نرفع رؤوسنا في السماء لنهتدي بهم , وهُم الذين حين تظلم دنيانا يرسلون لنا أشعتهم وأنوارهم , وهُم الذين تهمنا أخبارهم , وصورهم وآخر إنجازاتهم .

هم الذين خلّدناهم إعلاميًا وروحيًا وقيميًا , هم من يصنعون ثقافتنا , ثقافة الكُرة المستديرة , ثقافة الأغنية الهابطة , ثقافة الصورة المُثيرة , ثقافة الجسد المُتعري , ثقافة المشهد الذي يتجاوز كل الخطوط الحمراء والخضراء بل وحتى السوداء !

اليوم أصبحت المرأة التي ترتدي أقصر الثياب من الأسفل , وأخف الثياب من الأعلى , وتجلس بجانب زميلها المُمثل ممسكةً بيده هي الفنانة ( المُحترمة ) القديرة , وأصبح الرجل الذي يصوب قذيفته المدفعية نحو شباك العدو هو البطل الفاتح المغوار الذي جلب المجد لأمته , والشاب الذي يفوز في مسابقة غنائية هو الذي يُعلي شأن مجتمعه ويعزز مكانة دولته بين الدول ويُحتفا به احتفاء الفاتحين الأبطال .

تلك الأمور الغريبة والمفاهيم المُشوّهة الممسوخة ليست قديمة جدًا بل هي لم تطفو على السطح إلا في عصرنا هذا , فلم نسمع في عهد آبائنا تخليدًا لأمثال هؤلاء , بل ما تركوه لنا هو سيّر العظماء والعُلماء والمثقفين والأدباء والشجعان الكُرماء الأبطال , ما ورّثه لنا آبائنا كان هو المجد الحقيقي , والخُلق القويم , والعلم المُثمر , والتاريخ المجيد ..


كثيرًا ما أتساءل , ما الذي سنوّرث نحن لأبنائنا , ماذا سنعطيهم , ماذا سنخلف لهم من موروثٍ ثقافي , إذا كُنا نحن من ورثنا القيم من آبائنا هذه أحوالنا , فكيف بمن سيرث منا هذه الثقافات المؤلمة !

إن كان المجتمع والإعلام والناس يصرون اليوم على أن النجم هو المغني والممثل واللاعب والملحن والمصمم , فأنا أقول بأنهم نجومٌ آفلة , ضوئها مُعتم , والمُهتدي بها سيظل الطريق ولن يصل لغير السراب ! 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية