أول من بلور مصطلح (التناص) كمفهوم يعني علاقة بين النصوص تحدث بكيفيات مختلفة هو (ميخائيل باختين)ثم جاء بعده العديد من الأسماء،من أمثال : ( لوتمان،ريفاتير،جوليا كريستيفا،رولان بارث،وغيرهم) الذين اتفقوا على أن النصوص الأدبية، تقيم حوارا فيما بينها، وأن المدونة الأدبية ليست سكونية،بل هي دوما حاملة لحركة خطابية ،بين خطاب الآخر وخطاب الأنا،والقارئ هو الذي يلاحظ لعبة القراءة...
بين النصوص انطلاقا من ثقافته،وسعة اطلاعه، مع إدراكه أن الدلالة، تتكون من حركية جماعية،يأخذ فيها الإبداع شكل العمل الجماعي([1]).
والتناص (INTERTEXTUALITE)مفهوم أدخلته (جوليا كريستيفا)إلى حقل الدراسات الأدبية، في ستينيات القرن العشرين، بعدما استمدته من (باختين) مكتشف مفهوم الحوارية البوليفونية،أي تعدد الأصوات ،وجعلته وظيفة تناصية تتقاطع فيها نصوص عديدة في المجتمع والتاريخ وأسمته (الإديولوجيم)ولكن تسمية التناص هي التي تمكنت من الشيوع وذاع صيتها بشكل موسع وسريع وعنه تولدت مجموعة من المصطلحات ليصبح بمثابة البؤرة في مجال النقد الحديث،ومن هذه المصطلحات التي انبثقت عن التناص: التناصية ،المناص ،المتعاليات النصية،و الميتانص وغيرها،وقامت بممارسته جماعة (تل كل )TEL.QUEL الفرنسية التي كانت كريستيفا واحدة من أعضائها ([2]).التناص والتناصية.قد حظي التناص بموجة عارمة لم تقعد لها قائمة،نظرا لما اكتشف له من أهمية،إذ صدر في عام1976 عدد خاص من مجلة (بويطيقا) حول التناص،وأقيمت في عام 1979 ندوة عالمية عن التناص في جامعة كولومبيا،تحت رئاسة (ميشال ريفاتير).
ثم جمعت أعمال الندوة في عدد من مجلة الأدب عام 1981 ،ولم يتوقف البحث في هذا المجال(التناص) على مستوى المقالات،حتى تبلور على الشكل الذي هو عليه الآن.ولعل أهم الأبحاث الجادة في هذا المجال،ذلك الذي قام به (جيرار جينيت)وهو بصدد تحديد أنماط (التعالي النصي) والتي حصرها في خمسة أنماط: أولا: التناص INTERTEXTUALITE ويراد به العلاقة بين نصين أو أكثر، ويتجلى ذلك في كتاباتنا،كاستشهادات،وتلميحات،وإيحاءات،وسرقات.
ثانيا: الميتانص METATEXTUALITE أو (ما وراء النص)وهو علاقة التعليق الذي يربط نصا بآخر،يتحدث عنه دون أن يذكره،وقد مثل له جينيت بكتاب(فينومينولوجيا الروح)لهيجل الذي يلمح من خلاله بطريقة مبهمة إلى كتاب(ابن أخ رامو) لديدرو.
ثالثا: (النص الأعلى) وهو العلاقة التي تجمع بين نص أعلى ونص أسفل،وهي علاقة تحويل و محاكاة ،ومثالها (أوذيسة)هوميروس ،التي تحاكيها (أوليس) لجويس وتختلف عنها.
رابعا: (المناص) PARATEXTUALITE ونجده في العناوين ،والعناوين الفرعية،والمقدمات والخواتيم والصور،وكلمات الناشر. خامسا: (جامع النص)والذي يسمى أيضا معمارية،وهو نمط أكثر تجريد وتضمنا ويتضمن مجموعة الخصائص التي ينتمي إليها كل نص على حدة،قي تصنيفه كجنس أدبي، رواية ،محاولات شعر ، وقد توسع جيرار جينيت في شرح كل نمط من الأنماط الخمسة في كتاب مستقل..([3])ويرى محمد عزام في كتابه النص الغائب،أن تجسيد التناص أو تطبيقه يتم وفق ثلاثة قواعد لها أن تحصر علامة النص الغائب،مع النص الماثل([4]).* وقد أطلق على القاعدة الأولى تسمية (الاجترار)،وهو ما تجد الأديب من خلالهيلوك ما مضى مستحضرا النص الغائب،بوعي ليبدع وينتج عناصر منفصلة عن سابقتها،في النص الغائب،ومتميزة عنها ،ولكن المجد يبقى للسابق.·
وأسمى القاعدة الثانية(الامتصاص) وهو أعلى درجة من الاجترار ،وفيه تجد الأديب مقرا بالنص الغائب،ومضطرا لامتصاصه ضمن النص الماثل كاستمرار متجدد.·
أما القاعدة الثالثة،فأطلق عليها تسمية (الحوار) الذي رأى أنه أعلى درجة من سابقيه،وهو يعتمد على القراءة الواعية المعمقة التي تقدم روافد بنوية من النصوص الغائبة السابقة للنص الماثل،ليظهر الكل متفاعلا في إبداع نص جديد هو أيضا (تناص) مركب من تفاعل نصوص متداخلة. والمتتبع لنظرية التناص(التناصية) يجد أنها ولدت في أحضان السيميولوجيا،والبنيوية ابتداء بالشكلانية وانتهاء بالتشريحية،وقد رصد حركتها التاريخية وتطورها الناقد (مارك أونجينو )في بحثه (التناصية) وكذلك (ليون سمفل) في بحثه (التناصية)وقد انطلقت شرارتها عند الشكلانيين الروس ،في كتابات كل من (سلوفسكي)وبعده (باختين) الذي اتجه بها نحو النص ،لتستلمها منه (جوليا كريستيفا) مستخدمة لأول مرة مصطلح (التناص)في كتاباتها ،وقد اهتمت بالإنتاج فقط في بداياتها[5].
والتناص كمصطلح في باديء أمره كان يعني تلك التقاطعات بين النصوص أو بين نصين، من غير قصد ،وبكل عفوية وغير واع عند البعض،ولكن البعض الآخر لم يمنع من أن تكون التقاطعات مقصودة وواعية ،وبالتالي قد اقتربوا من مفهوم (التأثير والتأثر)في مجال المثاقفة بين الأمم،والذي اعتنت به الآداب المقارنة،وكذلك هو أقرب ما يكون إلى مفهوم (السرقات) عند العرب القدامى([6]). رواد التناصية (نظرية النص).التناصية عند (مارك أونجينو)"هي تقاطع في نص مؤدى مأخوذ من نصوص سابقة"([7])أما عند (لوران جيني)فهي "عمل يقوم به نص مركزي لتحويل نصوص وتمثلها ويحتفظ بريادة المعنى"([8])ونجده عند (ميشال ريفاتير)"هو أن يلحظ القارئ علاقات بين عمل وأعمال أخرى سبقته أو جاءت معه"([9])ويرى (رولان بارث)أن التناص هو تبادل نصوص ما أشلاء نصوص أخرى دارت أو تدور في فلك نص يعتبر مركزا وفي نهاية الأمر تتحد معه،وكل نص هو تناص ،والنصوص الأخرى تتراءى فيه متفاوتة ،واللغة هي النظام العلامي الوحيد الذي يمتلك القدرة على تفسير الأنظمة الدلالية الأخرى،وعلى تفسير نفسه بنفسه أيضا.([10])إذا فالنص باعتباره لغة يمثل شبكة لانهائية من التحولات والتكييفات الدلالية للنصوص السابقة والمعاصرة له ،التي تجمعت فيه و تفاعلت نصيا، فذلك التفاعل هو ما يشكل نظرية النص(التناصية)حسب هؤلاء جميعا.
والملاحظ أن مظان (نظرية التناص)تتجه إلى النص وحده لتجعله تلك الشبكة اللامتناهية من الشفرات والتقاطعات الإشارية،التي يمكن أن يدركها المتلقي،و"التناصية قدر كل نص مهما كان جنسه ،لا تقتصر حتما على قضية المنبع أو التأثير، فالتناص مجال عام للصيغ المجهولة التي يندر معرفة أصلها،و استجلابات لا شعورية عفوية"([11]) وهي(نظرية النص) في ذلك كله تعزز لدينا دلالة النص، باعتباره عند الغربيين نسيجا متكاملا متناسقا في صورته النهائية،ونظرية التناص أو التناصية جعلت علاقة المتلقي بالنص علاقة مصيرية،إذ أصبح المتلقي هو من يتحكم في شفرات النص ليحقق بناءه باعتباره مؤسسا هو الآخر، وليس تابعا لمبدعه،أو خالقه- إن جازت تسمية الإنشاء خلقا- ذلك أن "النص لن يكن امتلاكا وهو يتمركز في حقل التبادل اللامتناهي للشفرات ،وذلك ليس بحجة للكاتب ،ولهذا كله يصبح التفسير نفسه نصا ويبرز إلى السطح في لباس جديد متجدد" ([12]).
ولعل من أهم العلوم التي انتصرت لمفهوم التناص هي بالدرجة الأولى: السيميائيات، لتركيزها في وظيفة النقد على القراءة الكاشفة لشفرات النص،ونظامه الداخلي والمعايير المتحكمة في بنائه،ومن منطلق تقاطعاته مع غيره من النصوص التي لا مفر له منها ،ولا غنى له عنها،لأن "الكلام له سابقه وحاضره يصب في النص،ولكن ليس وفق طريق متدرجة معلومة، ولا بمحاكاة إرادية، وإنما وفق طريق متشعبة،صوره تمنح النص الإنتاجية،وليس إعادة الإنتاج"([13])والكلام لقاتل المؤلف ،ومحرر النص من سلطانه، ومانح القارئ زمام التحكم في لعبة إنتاجية النص وتجديده(رولان بارث).
هكذا كانت نظرية التناص(التناصية) ذات أول غربية،نشأت في زمن ما بعد الحداثةPOST-MODERNISATION احتضنتها السيميولوجيا والبنيوية،ثم التشريحية، وترامى كرتها أعلام من النقاد الحداثيين الغربيين،كما أسلفنا الذكر. أمثال: "مارك أونجينو" و "ليون سمفل"و "المدرسة الشكلانية"وبعدهم "جوليا كريستيفا" وصاحبة مصطلح "التناص" ثم "رولان بارث"الذي كان مخضرما مع كل المناهج النقدية التي شهدتها الحركة النقدية المعاصرة له في الغرب .والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان -خاصة ونحن على الشفير بين الحداثة التي امتلك زمامها المفكرون والنقاد الغربيون،والتراث النقدي العربي الذي علينا أن لا نتخلى عنه ،لأن في ذلك تخل عن هويتنا،وقطع لجذورنا،وتيه وضلال في المجهول،"ليس من أجل إعادة قراءة النص التراثي من أجل محاكمته ،وإخضاعه للنظرية الغربية،بداعي السبق العربي تارة أو تأثير التراث العربي والثقافة العربية أحيانا،بل لأن إقصاء التراث ،أو محاولة تقويضه،أو القفز عليه أو اختزاله،وتعميم الأحكام حوله-هو في اعتقادنا- عمل ارتجالي،غير علمي،وإن كان يدعي العلمية والرصانة،ويزعم أنه ينطلق منها،وعليها يبني أحكامه،فهذا التراث الذي وصل إلينا مايزال يمتد فينا،ومانزال نحيا بواسطته شئنا أم أبينا،وعينا ذلك أم لم نعه،يحضر بأشكال متعددة في ذهنيتنا ومخيلتنا،وذاكرتنا،ويتجلى بصور مختلفة في تصرفاتنا وتعبيرنا،وطرائق تفكيرنا،ومهما حاولنا القطيعة معه، أو إعلان موته نظريا أو شعوريا تظل خطاطاته وأنماطه العليا مترسخة في الوجدان "([14])،خاصة وأن الرؤية لم تحسم بعد ،والنتائج لم تتضح ولم تحسم لصالح المناهج الغربية،نهائياهذا غير أن مناهجهم مستنبطة من رؤى فكرية وفلسفية،تختلف جذريا وكليا عن الفلسفة التي أصلت للمنهاج العربي القرآني إن صح التعبير. السؤال هو ما بالنا قد احترنا بين التنقيب في موروثنا والكشف عن مكامن الدرر فيه،وبين سيل عرمرم من النظريات التي ما إن تبرز إحداها إلى الوجود حتى تقوض سابقتها،أو تعيد هيكلتها وترتيبها،وكل منها تفرض نفسها فرضا في بيئتنا وثقافتنا التي تختلف عن بيئاتها وثقافتها،فهل مرد ذلك إلى عولمة الفكر؟ وعولمة الإنسان والقيم ؟ ولكن لماذا عولمة على الطراز الغربي؟ كلها أسئلة تفرض نفسها بإلحاح ، وفي انتظار من يجيب عنها،تجدنا دوما متوجسين ،مستأنسين بموروثنا نمد إليه يدا كلما وجدنا أن ما جاء به الغرب ليس جديدا في ميدان الاكتشاف، ونكتشف أنه كان علينا أن ننطلق من حيث انتهى أسلافنا، لا من حيث انتهى الغربي، مع يقيننا أن " التجربة الإبداعية الشعرية والنقدية للعرب ،قد انتبهت إلى التصور الغربي لما تؤول إليه النصوص،سواء ما يرتبط منها بتعلق نص مع نصوص أخرى ،أو ما يرتبط بالبناء اللغوي للتجربة النصية عند المتلقي.فقد بدأت التجربة الإبداعية فطرية وإلهاما باعتمادها غير المباشر على مفهوم اللاوعي ثم صارت في منظور الوعي إشراقا ووجودا…وغدا النص ملكية عامة"([15]) أما إذا ما أتينا على مفهوم التداخل النصي والتمازج الإبداعي فيما بين النصوص،فالعرب عملت عليه نقادها وشعراؤها،تارة بعفوية وتارة عن قصد ووعي ،كيف لا وقد كانت العرب تتخير مما تحفظه الذاكرة ،،فتأخذ منه وتذر كما هو في قول الشاعر : ( [16])
أذود القوافي عـني ذيادا ذياد غلام جريئ جوادا
فأعــزل مرجانها جانبا وآخذ من درها المستجادا
فلما كثرن وعـــنّينه تخير منهنّ سـرّا جـيادا
إلا أن العرب لم تصطلح على تسمية (التناص) أو التداخل النصي،رغم أنه كان حاصلا في تعاملاتهم الإبداعية ،وهو عبارة عن إتمام كلام بكلام قيل قبله،كما الحال بالنسبة للمعارضات الشعرية التي عرفها العرب في الجاهلية،والتي تتوفر على عنصري القصدية والوعي،في تفعيل نص بنص آخر،على شاكلة واحدة وموضوع واحد،وكذلك يتموقع مفهوم التناص ضمن المصطلحات البلاغية العربية كقول العرب بالتضمين،والتلميح والإشارة، وهذا إقرار واضح من كعب بن زهير،فيه إشارة واضحة إلى التفاعل النصي عندما يقول:ما أرانا نقول إلا رجيعا ومعادا من قولنا مكرورا." فالقول وأمثاله في الشعر العربي يقرر لنا بكل دقة إعادة إنتاج رؤى وجوديه واقعية وفنية قديمة بصورة جديدة عفوية تارة ،ومقصودة تارة أخرى"([17]) .
ذلك لأن الشاعر أو المبدع منتج النص يجد نفسه محاصرا ومنقادا ضمن منظومة من التقاليد الثقافية، التي يجبر على التكيف ضمنها قبل أن يستقل بشخصيته ويتميز بإبداعه عن غيره. و" الإنتاجية الشعرية على هذا النحو، تمثل استعادة لمجموعة من النصوص القديمة في مضامينها وصورها وتراكيبها، أحيانا،بل إن قطاعا كبيرا من هذا الإنتاج الشعري،إنما يعد تحويرا لما سبقه،ذلك أن المبدع لا يتم له النضج الحقيقي إلى باستيعاب الجهد السابق عليه،في مجالات الإبداع المختلفة،فقد كان الشعراء ينصحون الشاعر المحدث بأن يقرأ آلاف الأبيات الشعرية، ويحفظها ثم ينساها، ليبدع من عنده ،ويجد شخصيته الشعرية"([18]) ويعد ذلك من البديهيات التي لا يجب أن يغفل عنها الباحث في مجال (التفاعل النصي)عند العرب القدامى،من منطلق أن الشاعر الجاهلي أو العربي قبل تقعيد وتقنين علوم العروض من قبل الخليل بن أحمد كان يجهل علم العروض،ولكنه كان ينسج قصيده على منوال قصائد سابقيه،اعتمادا على الحس الموسيقي، وعن طريق (المناصة)،وهذا ماجعل الشعر العربي كله يدور في فلك البحور التي عرفها العرب ونسجوا على وقعها.
وهذا يجعلنا نقول أن العرب كانت تمارس فعل التناص،لاسيما في الخطاب الشعري، دون أن تسميه، بينما كانت هناك تسميات مثل التضمين والاقتباس، والاستشهاد،وكذلك مفهوم السرقات، وإن كانت هذه التسمية الأخيرة دالة على الانتقاص والاستهجان،مما جعلهم يقللون من قيمة الشاعر الذي يلجأ إلى السرقات في شعره،ولكنها في الأخير وبممفهوم العصر أخذ أو محاكاة قام بها شاعر لنص شاعر آخر.
والسرقات مفهوم عرفته العرب وكتبت حوله الكتب،وسميت على من وصفوا بالسرقة الأدبية،"كسرقات أبي تمام"و"سرقات البحتري"و"سرقات أبي نواس"و"سرقات المتنبي"والتي تعد تحاملا من النقاد على هؤلاء الشعراء ،للقدح في سمعة الواحد منهم ،والإخلال بشهرته والتقليل من سطوته،على أهل عصره من الشعراء،قصد الانتقاص بالدرجة الأولى،إلا أن ذلك قد أضاف رصيدا نقديا هاما إلى المدونة النقدية العربية القديمة،إذ لا يمكن لمنقب في الكتب النقدية العربية أن ينكر وجود بابا مخصصا (للسرقات) وإليك صاحب العمدة،ابن رشيق القيرواني عندما يقول:"وهذا باب متسع جدا لا يقدر أحد الشعراء أنه يدعي السلامة منه وفيه أشياء غامضة،إلا عن البصير الحاذق بالصناعة،وأخرى فاضحة لا تخفى على الجاهل" ([19]).
ومن نماذج التداخل النصي عند العرب القدامى،قول المتنبي: ([20])يزر الأعادي في سماء عجاجه أسنته في جانبيها الكواكبفي البيت تشبيه الشرر المتطاير من قرع السيوف والحراب وسط الغبار،بالنجوم في ظلام الليل، فلما تتبع النقاد هذا المعنى قالوا: إن البيت مأخوذ من قول بشار بن برد: ([21])كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبهوقوله أيضا:خلقنا سماء فوقنا بنجومها سيوفنا ونقعا يقبض الطرف أقتماثم تتبعوا المعنى ذاته فوجدوا أن الصورة قد سيقت من قول عمرو بن كلثوم: ([22])تبنى سنابكها من فوق رؤوسهم سقفا كواكبه البيض المباتيرويمكننا القول في هذا الصدد أن حرص النقاد القدامى،على تنميط التصوير الفنيفي استعاراته وتشابيهه،وكناياته ومجازه،كان سببا في جريان الشعر العربي على وتيرة متشابهة،وبالتالي الوقوع في الاختلاس والمماثلة،كما أن النقاد تعارفوا على أن القصيد يفتتح بالوقوف على الطلل،ثم يعرج على النسيب إلخ ..
وهذا أيضا عائق يحد من حرية الشاعر،ويوقعه في محاذاة غيره والأخذ منهم بممارسة نوع من الإنزياح أو الانحراف للوصول إلى نص جديد غير مطروق، إلا أن المتلقي الحاذق –كما أشار ابن رشيق- يكتشف روح الصلة بين النصوص،بحيث يجد أن الشاعر قد وقف واستوقف كما فعل أسلافه،و ألبس وقفته تلك ثوبا جديدا من الألفاظ ،ونمقه بصورة تبدو مختلفة ولكنها ليست سوى بنية لأمها،ومن هنا كانت النصوص الشعرية القديمة غنية بالتناصات فيما بينها.