أكد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على وحدة الأصل الإنساني، ولكن مع الإقرار بمبدأ الاختلاف، ورتبا على ذلك ضرورة التفاهم والتعارف والتعاون بين الناس، وتبادل المنافع بين الأجناس والأديان المختلفة، وأمرا بالعدل بين الناس عامة بغض النظر عن عقيدتهم، وهذا ما يؤكد ضرورة التعايش مع الآخرين، ومن أوجه هذا الأخير: نجد التعايش الثقافي بين الأمم والحضارات المختلفة. والأمة الإسلامية واحدة من تلك الأمم، فقد قدمت نماذج يعترف بها العدو قبل الصديق، وضربت أروع المثل في التعايش مع الآخرين. والنماذج الإسلامية للتعايش مع غير المسلمين في تاريخ الإسلام القديم والحديث كثيرة جداً، وعند هذا المقام يتبادر إلى أذهاننا التساؤل التالي: كيف حَفِظ ذلك التعايش القائم بين المسلمين ونظرائهم التوازن و السلم بين الأمم أحيانا ؟ وكيف انحدرت الأوضاع إلى العكس عند فقدانه أو الإخلال بعنصر من عناصره ؟ ولا يمكن في الواقع معرفة ذلك إلا من خلال ذكر نماذج تتضح من خلالها الإجابة على ذلك التساؤل.
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم.
يشكّل هذا البحث الموسوم: "(فتوح الغيب) من المعنى الروحي إلى أزمة الإنسان المعاصر"، المساهمة الثانية في مجال التأسيس لعلم الروح الإسلامي، بعد أن صدر البحث الأول قبل ما يقرب من سنتين بعنوان: " نحو علم إسلامي روحي: مساهمة في نقد الأزمة المادية للحداثة والإنسان المعاصر" [1]، ليكون بمثابة إعلان عن تأسيس علم الروح الإسلامي في صياغة معاصرة، في ظل المبادئ التي اشتمل عليها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وليعمل على إحداث توازن بين شهوات الجسد ومتطلبات الروح الضرورية، مستظلا بقول الله تعالى في كتابه الكريم: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴿٢٨﴾ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [ ص: 71 - 72 ].
ويساعد ( علم الروح الإسلامي ) على إيجاد حلول جذرية للمشاكل العميقة، الناتجة عن الفلسفة المادية الأحادية، والتناقضات الكامنة في نظام الحداثة، وما يترتب عليه. يدور البحث حول المفاهيم الأساسية، التي اشتمل عليها كتاب: " فتوح الغيب" للشيخ عبد القادر الجيلاني، ويعمل على مد الجسور بين الكتاب المذكور، وبين مفاهيم العصر ومشكلاته الراهنة، وأزماته المعقدة، وصولا، من خلال المقارنة، إلى إيجاد حلول للمشكلات الإنسانيّة والاجتماعية والثقافية الراهنة.
ومن الله سبحانه وتعالى العون والتوفيق.
تنطوي استعمالات مفهوم المجتمع المدني على كم هائل من الاختلاطات والالتباسات، حيث كل مقاربة ترتدي هنا لبوس الأيديولوجيا، إنما تندرج في حكم المقاربات التي تتماهى مع عموم الخطاب النفعي.
إن التتبع التاريخي والرصد المنهجي والإبستيمولوجي لمفهوم المجتمع المدني، إنما هو محاولة معرفية للتصدي لهذا الائتلاف وتفكيك لتلك الاختلاطات التي أحاطت وواكبت تاريخ وتجربة المفهوم نظريا وسوسيولوجيا.
وقد عرف مفهوم المجتمع المدني ذيوعا وانتشارا كبيرين في الخطاب العربي المعاصر، وأصبح من المفاهيم الشائعة والمألوفة ومن ثم المقبولة – رغم ما أثاره، ولا يزال من اختلاطات واختلافات بشأنه- في كتابات الصحافة العربية وفي أحاديث وسائل الإعلام الأخرى، كما نجده فيما تعلنه النقابات والجمعيات المهنية من مطالب وبلاغات، وفيما تصدره جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان بمختلف توجهاتها من نداءات، كما يتردد المفهوم نفسه في خطب وأحاديث الأحزاب السياسية والعديد من الجمعيات الثقافية والاجتماعية، وفيما تورده مراكز البحث من تقارير ودراسات، هذا بالإضافة إلى عدم خلو خطابات وكتابات المثقف العربي منه، بل إن المثير في الأمر أن الخطاب الرسمي والحكومي العربي يحمل في الكثير من الأحيان هذا المفهوم .
هذا الرواج الهائل لمفهوم "المجتمع المدني" أسهم في زيادة تعقيداته واضطراباته بشكل أضفى عليه عدم الاستقرار والتحديد الواضح، مما جعل فكرة المجتمع المدني تتهيأ للتوظيف الخاطئ والاستخدام السيئ، حتى إن استخدامه في بعض الصراع السياسي يتخذ مضمونه بحسب الجهة التي تستخدمه ووفقا للأغراض التي تسعى لتحقيقها، كما كانت للخلفيات الفكرية وطبيعة الواقع السياسي والاجتماعي للمهتمين بفكرة المجتمع المدني دورا أساسيا في الوصول بالمفهوم إلى نوع من الاستقرار والوضوح، فقدّم المفهوم تارة بوصفه مقابلا للدولة والمجتمع السياسي، وتارة أخرى بوصفه مقابلا للدين.
كما قدم كمقابل للنظم العسكرية والبنى الاجتماعية التقليدية، وقدم أخيرا بوصغه مفهوما حديثا لا صلة له بالمجتمع العربي الإسلامي كذريعة لرفضه وعدم القبول به وهو ما جعل المفهوم حمّال أوجهٍ عديدة زادت من الغموض عند التعامل معه، فلم تهتم الكثير من الكتابات العربية في تناولها للمفهوم بإزالة هذا الغموض والإبهام الذي أحاط به أو محاولة إيجاد المدخل المناسب لتحديده تحديدا دقيقا من الناحية التاريخية والوظيفية والمجتمعية حتى يتم الكشف عن جوهره وأدواره وأبعاده.
كانت الأسئلة تتزاحم خلف لساني ولا أعلم بأيِّها سأبدأ، ولكن بعد برهات من التّفكير رأيتُ أن أبدأ من الواقع الَّذي هو أمامي، فقد كانت مُعظم عناوين المُجلدات الَّتي أمامي تدور في فلك التّاريخ .. استفسرت منه إن كان مؤرخاً أو مهتماً بالتّاريخ؟ ولكن جواب العجوز لم يكن حاسماً فلم يؤكِّد أنهُ مؤرخ ولم ينفِ ذلك بل اكتفى بالقول إنَّه يملك الكثير من كتب التّاريخ!.
فأردفت بالقول: نعم كتُب التّاريخ شديدة الأهمية فهي تخبرنا بحقيقة ما حدث في العهود السّالفة، تنفس العجوز بعمق ثمَّ أغمض عينيه، وهو يستند براحتيهِ على السّرير الَّذي يرقد فوقهُ ثمَّ فتحهما كمن عاد للتو من رحلةٍ بعيدةٍ أو كأنَّهُ ذهب ليستشير أحداً ما في الحلم ثمَّ استيقظ ليجيب: بالنّظر إلى حالَّتي الخاصة، فإنَّ اقتنائي لكتب التّاريخ يندرج في مقولة "يجب أن تعرف ماذا يكتبه عنك أعداؤك" ورغم أني لا أحمل عداءً للمؤرخ إلا أنّهُ يُعلن العلاقة معي في إطار الحُكم الأخلاقيّ للعلاقة الإيجابية، فأنا من حيثُ طبيعتي لا أحمل تجاه الآخر قيمةً أخلاقيةً ما، فأنا لست حُبّاً، ولست كُرهاً، كما أني لست "معَ"، ولست "ضدًا"، أي أنني أندرج في علاقتي مع المؤرخ في إطار القيمة الأخلاقيّة السّالبة، وأحسن الغلام "ماكس فيبر" عندما قال: بأنَّ عمي العجوز يقف في علاقتهِ مع ما يحيطهُ على مسافة واحدة، فهو يضع نفسهُ في خانة "المحايدة التّقيميّة". ولكن ما يحدث أنّ المؤرخ لا يستطيع أن يقاوم إغراء إصدار الأحكام في ما يكتبهُ حولي، وإذا عُدت إلى هذه الكتابات فإنِّي أجدها في مجملها تجعل من حياتي الطَّويلة تسير في مسارب مؤطَّرةٍ بإيديولوجياتٍ متشاكسةٍ ومتضاربةٍ على نحوٍ يدعو إلى الضَّحك والدَّهشة، وهي بذلك بشكلٍ أو بآخرٍ تُعلن العداء على طبيعتي الحياديِّة، وترفض أن تعترف بهذه الخصوصيِّة الَّتي هي هويتي الحقيقية، والَّتي من غيرها أفقد كينونتي الخاصة، وإذا الأمر كما قلت لك فإنَّ كتب التّاريخ تصبح بالنسبة لي هي الوثائق على افتراءات المؤرخ حول طبيعتي الأصلية، ولذلك كان لا بُدَّ لي من معرفة ما يكتبهُ حولي هؤلاء القوم الَّذين يناصبوني العداء رغم أنَّي لا أرى فيهم إلا كما يرى المسافر في مسافرٍ آخر يسير إلى جنبه.
(أنا أفكر إذا أنا موجود)...مقولة نحَتها أبوالفلسفة الحديثة (رينيه ديكارت) فصارت حجر الزاوية في تعريف جديد للإنسان بوصفه كائنا مفكرا، وقد أكّد على ذلك (مالك بن نبي) حين صنّف عالم الأفكار على أنه أعلى درجات الرقي في سلّم الإنسانية الحقّة بعد أن تجاوزت عالمي الأشياء والأشخاص. ومعلوم أن الحيوانات المنوية والبويضات لم تكن يوما وعاء ناقلا للفكر؛ فالوراثة بريئة من تهمة صناعة الفكر كبراءة يوسف من بهتان امرأة العزيز، ولكن العقل وحده هو من يصنع من دقيق الحياة ومائها خبزه الفكري ووقوده الإدراكي الذي يقوده إلى النجاة إن كان صحيحا وإيجابيا أو إلى الهاوية إن كان سلبيا وشيطانيا.
وإذا كانت المعرفة والثقافة هي نتاج النقل، والعقل، والتجوال في ميادين الحياة المتشعِّبة عبر عائلة الحواسّ الخماسية(البصر-السمع-التذوق-الشم-اللمس)؛ فإن الأفكار هي المنتوج النهائي والمولود الذهني الذي يكشف المجهول ويشرح الغامض ويوضح المُبهم ويحلّ المعضل، أما المبادئ فهي تلك الأفكار التي صمدت للنقد؛ فلاقت إجماعا إنسانيا على مَرّ العصور، ووافقت الفطرة، وعززتها الرسالات السماوية، وأكدتها التجارب الحياتية.
قبل آلاف السنين كان الهنود السود سكان الهند الأصليون يعيشون بسلام على أراضيهم ومزارعهم، كانوا في ذلك الوقت يعيشون حياة طبيعية، فكل شعب الهند في ذلك الوقت كان لون بشرتهم أسود، ولم يسبق لهندي واحد أن رأى غير هذه البشرة، لم يعرف هذا الشعب البدائي الله بعد، لكنهم كانوا يعتقدون بوجود قوى طبيعية تحكم حياتهم، كان السلام والوئام هو حقيقة حياة الهندي؛ فهو بعيد كل البعد عن العنف؛ لأنهم لم يعرفوا المصالح والتجارة، كما لم يعرفوا الأسلحة والجيوش، ولأن الملكية الخاصة لم تكن تهمهم كانت الأرض مشاعة بين كل الهنود إلى أن ظهر شعب جديد في حياتهم، لا يذكر التاريخ سبب زحف هذا الشعب الغريب نحو الهند الذي جاء من أقاصي آسيا، عندما قدموا كانوا يرتدون ملابس معدنية مطلية بالذهب، ولا يتكلمون لغة الهنود أصحاب الأرض، وكانوا يركبون أحصنة، عندما رأى سكان الأرض هذا الشعب يزحف نحوهم منهم من هرب ومنهم من تجمد في مكانه، فهؤلاء لون بشرتهم أبيض وعيونهم زرقاء،كانوا بالنسبة للهندي المزارع بمثابة أمر غريب لم يسبق له أن رآه، فمنهم من حاول الاقتراب ليلمس هذه الأجساد، إلا أن أحد هؤلاء البيض ضربه برمح فأصابه، فعرف شعب الهند أن هذا الجنس الجديد يعاقب على الاقتراب منه بطعن، لهذا كان على الهنود أن ينحنوا لهم مثلما ينحنون عندما يسمعون صوت الرعد؛ حيث يخفون وجوههم ولا يرفعون نظرهم إلى السماء خوفا من الصواعق، ثم ابتعدوا عن هذا الشعب الآري الأبيض المتميز عن الهنود، لم يكن الآريون يتشاركون الطعام مع الهنود، كانوا يجتمعون مع بعضهم، و بدأوا ببناء معسكرهم بالقرب من النهر حيث يسقون أحصنتهم، ومع مرور الأيام بدأوا يبنون مساكن من الطين والحجر، ويحيطونها بالجدران، فتشكلت أول مدينة في الهند وتشكل فيها السوق والمعبد، وفي تلك الحقبة كان يمنع الهنود من الاقتراب منها، ثم قام الآريون بالهجوم على الهنود وأسروا الشباب منهم ووضعوا في أيديهم الأغلال، وبدأوا يعلمونهم اللغة الآرية، كان من بين هؤلاء شاب هندي ذكي تعلم اللغة الآرية، الذي تحول مع الوقت إلى مترجم يتكلم بلغتين،
يعتبر المنظورُ السوسيولوجي الجمعيةَ: مجموعةً من الأفراد المنظمين إراديًّا، طوعيًّا وغائيًّا، بحيث يسعون إلى القيام بعمل جماعي وتشاركي ومستمر. إن الطابع العمومي لهذا التعريف، والمتسم في طياته بنوع من الضبابية، يشمل أيضًا النقابة، الحزب، الشركة، وغيرها من الأشكال الاجتماعية الأخرى. ومع ذلك، فإن التعاون في إطار نوع من التطوع، هو الذي يحدّد مصير العمل الجمعوي المنظم، ويميزه بالتالي عن باقي هذه التنظيمات. إن المقاربة الاجتماعية ـ بذلك ـ تجعل من الجمعية: جماعةً من الأفراد انبثقت عنهم رغبة القيام بنشاط معين كان موجودًا من قبل أو غير موجود؛ لفائدتهم أو لفائدة مجتمعهم، والمقصود بمجتمعهم: الحي أو المدينة أو القرية أو مجموع التراب الوطني، وذلك في إطار من التعاون والتطوع والتشارك والتعاضد وممارسة الأنشطة والعلاقات التي تقوم بها الجمعية تربويًّا وفنيًّا واجتماعيًّا ورياضيًّا...
الصفحة 3 من 40